قصتي مع فاتح أغسطس طويلة ومتشعبة، لا يضاهيها الاّ قصة الموريتانيين جميعا مع ثالثه وسادسه والتي يبدو أنهم سيعنون منها كثيرا.
فقد بدأت هذه القصة يوم الفاتح من أغسطس 1976، قبل 39 سنة، بولوجي عالم الصحافة بالتحاقي بالوكالة الموريتانية للصحافة بعد سنة واحدة من إنشائها، كطابع لنشرتها، بعد نجاحي في امتحان شاركت فيه ونجحت الوحيد من بين المشاركين، دون أية وساطة.
وخلال 36 سنة من ذلك اليوم واكبت جميع مراحل تطور الوكالة، بما في ذالك تغير اسمائها ومقراتها وتقلب أمزجة 20 مديرا عاما، تعاقبوا عليها منذ التحاقي بها، كما تطورت أنا فيها من طابع الي مخبر صحفي، مشهود له بأنه من بين أكثر زملائه نشاطا وحضورا في قلب الحدث، حيث واكبت عن قرب، جميع مراحل تطور الدولة الموريتانية بأدق تفاصيلها، ما بين فاتح أغسطس 1976 الي فاتح أغسطس 2014، بما في ذلك حرب الصحراء، التي عملت مراسلا للوكالة في فترة أوجها في شمال موريتانيا، حيث كانت تدور أهم وقائع هذه الحرب.
كما واكبت بالتغطية الميدانية جميع حلقات مسلسل الانقلابات، الناجحة والفاشلة (وما تولد عنها من أنماط للحكامة)، الذي بدأت حلقته الاولي، منذ 37 سنة، صبيحة الأثنين العاشر من يوليو 1978، لتتواصل بلا نهاية، علي التوالي في 6 ابريل 1979 و3 يونيو 1979 و4 يناير 1980 و16 مارس 1981 و 12 دجمبر 1984 و 8 يونيو 2000 و3 أغسطس 2005، و6 اغسطس 2008، إضافة الي 6 محاولات اعلنت الانظمة أنها احبطتها قبل تنفيها علي التوالي: 1983و 1986 و 1987 و1990 و2000 و2004 وسجن من اتهموا بها وقتل منهم البعض وقد حضرت محاكمات بعضهم ولحظة النطق بالأحكام عليهم بما فيها أحكام الاعدام.
ومن فاتح أغسطس 1976 الي فاتح اغسطس 2014، عايشت موت أنظمة ولحظات ولادة أخري ولحظات موت مؤسسات الحزب الواحد (حزب الشعب) ولحظات نشأة جميع المؤسسات السياسية والتشريعية التي تولد وتموت مع كل نظام عرفته موريتانيا منذ بدأ مسلسل الانقلابات فيها، الذي لم تلح حتى الآن في الأفق نهاية له.
وقد كانت نهاية قصتي الأولي مع الفاتح أغسطس، التي استمرت 38 سنة (تم فصلي تعسفيا من العمل مع حرماني من جميع حقوقي في سنتها السادسة والثلاثين)، في فاتح أغسطس 2014، باعتزالي العمل الصحفي بصورة نهائية، لأسباب بينتها في ذلك التاريخ، لتبدأ قصتي الثانية مع فاتح اغسطس والتي أطفئ اليوم، الفاتح أغسطس 2015 شمعتها الأولي وهي مناسبة أنتهزها لعرض أهم أحداثه هذه السنة.
تنقسم هذه الأحداث إلي شقين، لكل منهما حلوه ومره، أحدهما يتعلق بي شخصيا والثاني يتعلق بموريتانيا، التي أنا أحد مواطنيها العاديين، ينسحب علي ما يجري فيها.
وسأبدأ بالشق المتعلق بي شخصيا وبشقه الذي حلاوته أحلا من العسل ومن أبرز أحداثه، ميلاد حفيدتي الثانية، شيماء ونجاح جميع أبنائي في دراساتهم وأعمالهم وحياتهم الاجتماعية وهي منن من الله علي، لا أستحقها عليه، أحمده وأشكره عليها.
ومن الأحداث الحلوة التي عشتها في سنتي الأولي من الاعتزال، هي أنني لم أحتج لحظة لأحد في أي أمر من أمور الدنيا، رغم فصلي التعسفي من العمل وحرماني من جميع حقوقي منذ مايو 2012 واعتزالي العمل، حيث كانت هذه السنة، أحلا سنة عشتها في حياتي، فيها عشت لذة القرب من أسرتي وفيها نمت ملء جفوني، قرير العين، مطمئن البال، مرتاح الضمير والجسد وفيها لبست بالحلال أحسن الثياب وأكلت أحسن المأكولات وفيها تعالجت في أرقي المستشفيات في الخارج، رغم أن قرار الفصل من العمل، حرمني من كل عون من الدولة الموريتانية.
ويرجع الفضل في هذا كله، الي فضل الله عزَّ وجلَّ ولطفه بعباده، “الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ”.
ومن نعم الله عليّ، التي لا تحصى، أن رزقني زوجة صالحة وأبناء بررة، يتنافسون في توفير جميع أنواع السعادة لي، فكانوا نعم الجليس والأنيس، فعندما اقترح علي الطبيب العلاج في الخارج وفروا لي ذلك في تونس لمدة شهرين، كانت وسائل الراحة والسياحة فيها الي جانب العلاج متوفرة، رفقة هذه الزوجة الصالحة، التي اصرت علي مرافقتي، صحبة إحدى بناتنا.
وعندما نصحنى الطبيب بالخرج أحيانا من جو نواكشوط المتلوث، وفروا لي مكانا للراحة خارجه.
أما الشق المر من حياتي هذه السنة، فمرارته مرتبطة بالشق الثاني من أحداثها المتعلقة بموريتانيا عموما وهو الشق الذي لا حلاوة فيه، أبدأ بها، بل كله مرارته أشد من الحنظل وكنت أتذوقها كل يوم من أيام هذه السنة، وتؤرق علي حلاوة حياتي الخاصة.
ففي هذه السنة زادت الاسعار وتدهورت حياة الناس، رغم انخفاض اسعار المواد النفطية والغذائية عالميا بنسبة زادت أحيانا علي 100% وفيها تفاقمت البطالة حيث سجلت موريتانيا علي مؤشر التشغيل الدولي في ذيل دول العالم بتجاوز البطالة فيها 30% وهو نفس المقعد الذي احتلته في نسبة الفقر وانعدام الرفاهية لمواطنيها وعلي مؤشر الفساد وسوء الحكامة، مما جعل موريتانيا تشهد هجرة غير مسبوقة في صفوف شبابها بمن فيهم اصحاب الكفاءات العالية الي الخارج، بحثا عن العمل، مفضلين المغامرة بحياتهم علي البقاء في وطنهم، الذي فقدوا فيه كل أمل.
وفي هذه السنة، التي سميت سنة التعليم، بلغت نسبة النجاح في شهادة البكلوريا 7% وحرم مئات الطلاب في الخارج من منحهم وحرم منها الآلاف في الداخل وفيها تقرر بيع أهم المدارس وأقدمها في نواكشوط وتحويلها الي أسواق في عملية لن يستفيد من الاّ من استفادوا من ساحة ابلوڴات وساحة مقر المسيقى العسكرية ومدرسة الشرطة والملعب الاولمبي ورباط البحر والحياء التجارية والصناعية في نواكشوط الشمالية والمساحات المحاذية لطريق نواذيبو وتلك المحيطة بمطار نواكشوط الدولي وأراضي المطار القديم.
وفي هذه السنة أعيد انتخاب ولد عبد العزيز لمأمورية ثانية في انتخابات قاطعتها المعارضة وجرت في أقل الظروف شفافية، وأنفقت علي رحلاته خارج البلاد وداخلها، عشرات المليارات من المال العام.
وفي هذه السنة، جري الحديث عن تغيير الدستور وبدأت علا مات التحضير لذلك لتمكين ولد عبد العزيز من مأمورية ثالثة، التي ربما يلقب فيها بـ”الرئيس مدي الحياة”، كما لقب في الاولي، “رئيس الفقراء” وازدادوا فقرا وفي الثانية “الرئيس الإنسان” وفيها تفاقمت الجريمة بجميع أنواعها وظهرت مليشيات تهدد الناس في حياتهم وممتلكاتهم وتفرق بين المرء وعياله وفيها تصاعدت وتيرة النفاق والتزلف وعدم الاهتمام بالشأن العام وانسداد الأفق امام أي ضوء في آخر النفق يبشر بإنقاذ البلاد من الهاوية التي تسير نحوها بسرعة.
وفي هذه السنة لم يتجاوز الحوار بين المعارضة والنظام، مستوي التنباز وتبادل الاتهامات وفيها نامت المعارضة ولم تصحوا بعد من نومها.
وفي هذه السنة ضيق علي الحريات العامة من خلال سجن الحقوقيين والاعتقالات العشوائية وقمع الاحتجاجات السلمية وفيها غلب النظام، السخافة البلطجية علي الصحافة المهنية الجادة،.
كانت هذه هي أهم أحداث ما بين فاتح أغسطس 2014 وفاتح أغسطس 2015 سنتي الاولي من اعتزال الصحافة.
استودعكم الله، الي الذكري الثانية فاتح أغسطس 2016 ، رجيا من الله أن نعيشها في سعادة وأحتفل بها معكم وأحوال موريتانيا كلها حلوة كالعسل لا مرارة فيها.
ماموني ولد مختار