قليلون جدا هم من وهبهم الله خصال الصدق والمثابرة والإخلاص في خدمة وطنهم والعمل بعيدا عن الأضواء في سبيل عزة وكرامة المجموعة الوطنية بكافة أطيافها ومكوناتها؛ سياسية كانت أم ثقافية أم عرقية أم اجتماعية…
إنهم ثلة من المؤسسين الأولين وقليل من الوطنيين الصادقين المعاصرين
وهبوا قدراتهم الشخصية وطاقاتهم المعرفية وخبراتهم المشهودة لإرساء دعائم الحكامة الراشدة وترسيخ عوامل اللحمة الوطنية وتجذ ير السلم المدني وبناء روح المواطنة الحقة ضمانا لاستدامة دولة الحق والقانون والمؤسسات ثقافة ونهجا وممارسة..
وبقدر ما قدم هؤلاء من تضحيات جسام؛ دون من ولا أذى ، خدمة للوطن والأمة الموريتانية؛ بقدر ما كان إعراض الكثيرين ـ حتى لا نقول الجميع ـ عن إيفائهم ولو مجرد غيض من فيض ما يستحقون على هذا الوطن من الجميل أمرا مثيرا للخيبة والدهشة والحيرة.. بل للحرقة والألم أحيانا كثيرة..
ورغم قلة عدد هؤلاء الجنود المجهولين وبعدهم عن الأضواء وعن إصدار أي ضجيج يثير الانتباه إليهم، إلا أنهم بزغوا كنجوم تتوهج في فضاء من الظلام يحفه بحر من الفقاعات الضوئية ما تلبث أن تنقشع لمجرد تركيز النظرعليها ليتبين زيف لمعانها وخلوها من أي مصدر للنور.
ولعل من ألمع تلك النماذج وأكثرها توهجا في سماء العمل الوطني الصادق والمثمر، الوزير السابق الكوري ولد عبد المولى، أحد أخلص الداعمين للرئيس محمد ولد عبد العزيز من اللحظة الأولى إلى اليوم؛ فما وهن ولا استكان في مسيرة عطائه الصامتة ضمن عملية التغيير البناء ومعركة إعادة تأسيس موريتانيا الحديثة وفق قواعد الحرية والعدالة والمساواة والنهوض الاقتصادي التي رسم معالمها رئيس الجمهورية بوضوح وإيمان لا يتزعزع غداة تقلده زمام السلطة قبل سبع سنوات ونيف.
كان ولد عبد المولى رائدا بلا منازع في مسيرة تحرير المشهد الإعلامي وخلق فضاء حرية التعبير والرأي في البلاد من خلال نهجه الصارم والمستنير أثناء توليه حقيبة وزارة الاتصال والعلاقات مع البرلمان..
فكانت بداية مشواره فرض إصلاحات جوهرية ومستدامة في المنظومة القانونية والترسانة المؤسسية التي تحكم حرية الإعلام في البلد؛ ما أفضى لاحقا إلى إلغاء عقوبة حبس الصحفيين وتحرير الفضاء السمعي البصري، ضمن إصلاحات عديدة أخرى..
وكان الأول، وربما الوحيد، من بين كل الذين سبقوه على رأس هذا القطاع؛ الذي يحظى بعلاقات قوامها الاحترام والثقة والانسجام مع كافة الفاعلين في الحقل الإعلامي من صحفيين ومؤسسات وهيئات إعلامية وطنية ودولية ذات اهتمام بالشأن الموريتاني؛ وهي الميزة التي ما يزال يحتفظ بها إلى اليوم.
كان هذا النهج الراسخ في سلوك الكوري ولد عبد المولى حاضرا بقوة وجلاء خلال فترة توليه منصب وزير مستشار برئاسة الجمهورية ؛ إذ تعزز الحضور الإعلامي للرئيس محمد ولد عبد العزيز وأزيح الحاجز السميك الذي ظل مضروبا لعقود عديدة بين مركز صنع القرار الوطني وبين صناع وموجهي الرأي العام من الصحفيين ذوي الكفاءات والخبرة العالية والحضور الفعلي في المشهد الإعلامي الوطني والإقليمي والدولي.
ولم تتوقف نجاحات الرجل عند تقلده مناصب وزارية أو قربه من الرئيس ومن الإعلام؛ بل كانت بصماته الجلية ساطعة على سجل أدائه في مواقع أخرى لعل من أبرزها فترته على رأس مجلس إدارة الوكالة الوطنية للطيران المدني.
ولأن الكوري من تلك الفئة من الجنود المجهولين البعيدين عن الضجيج والأضواء، فقد عمل كغيره من عوالق الأضواء ومحترفي تسلق أعمدة العظماء إلى استغلال نجاحاته واستثمار عطائه الوافر للصعود عبر درجات سُلم المناصب والوظائف ذات العائد المادي والمعنوي المباشر.
من ذلك على سبيل المثال لا الحصر نجاح جهود ومساعي ولد عبد المولى في إخراج شركة الطيران الوطنية الوحيدة من حصار الحظر المفروض عليها دوليا جراء عدم التقيد بمعايير السلامة الفنية المعهودة لدى الاتحاد الدولي للطيران المدني.
وهي جهود كللت، ليس بقرار الاتحاد رفع ذلك الحظر القاتل فحسب، وإنما ـ أيضا ـ بتوجيه رسائل تهنئة وشهادات تقدير لوكالة الطيران المدني، لتقلع “طائرات موريتانيا للطيران” عبر أجواء العالم وتهبط في مختلف مدارج مطارات أوروبا بعد أن كانت محرمة عليها ردحا من الزمن.
على الصعيد السياسي، نجح ولد عبد المولى في الحفاظ على علاقات متوازنة وعميقة مع كافة مكونات الأغلبية الداعمة للرئيس محمد ولد عبد العزيز، ونأي بنفسه عن تجاذبات وصراعات أجنحة تلك الأغلبية؛ فيما فرض لنفسه احترام وتقدير جميع الخصوم السياسيين في المعارضة بكافة فروعها وتشكيلاتها..
وهي ميزة يقل؛ إن لم نقل ينعدم؛ مثلها لدى أي من سياسي بلادنا، خاصة في المرحلة الراهنة. ولئن كان الكوري ولد عبد المولى قد حقق كل هذه النجاحات الباهرة في مساره الوظيفي والسياسي المتميز؛ مفضلا لغة العمل الملموس ذي النتائج الإيجابية الجلية عميمة النفع، على لغة أضواء الإعلام وضجيج المساجلات السياسية وصخب الندوات والمهرجانات العامة؛ فإن ما لا مراء فيه أنه لم يلق من وطن كرس حياته وجهده لخدمته، ما يستحقه عليه، عن جدارة، من تكريم وإن بلفتة ترد له الاعتبار وتبعث روح العطاء والتضحية لدى كل الوطنيين الصادقين الشرفاء ممن يجدون ذواتهم في رجل من هذا العيار النادر..
أحمدو ولد إسلم