بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبيه الكريم
• فخامة رئيس الجمهورية؛
• السيد زعيم مؤسسة المعارضة الديمقراطية؛
• السادة والسيدات الوزراء؛
• السيدة المديرة العامة لليونسكو؛
• السيد المدير العام للأسيسكو؛
• السيد المدير العام للألكسو؛
• السيد رئيس معهد العالم العربي بباريس؛
• السيد والي ولاية آدرار؛
• السيد رئيس جهة آدرار؛
• السيد عمدة بلدية شنقيط؛
• السادة والسيدات أعضاء السلك الدبلوماسي؛
• السادة والسيدات رؤساء الأحزاب السياسية؛
• السادة والسيدات ضيوف مدائن التراث؛
• السادة والسيدات المدعوون؛
• أيها الحضور الكريم؛
تستضيفنا اليوم ثمانية قرون من الحياة والمعرفة والإشعاع؛ ثمانية قرون استطاعت خلالها هذه الحاضرة الهاجعة بعيدا بين التلال والربى أن تكون ميسما على كل فضاء الصحراء الكبرى مالئةً للدنيا وشاغلةً للناس؛ تستضيفنا الحاضرة التي قال عميد الأدب العربي طه حسين عن واحد من الموسومين بصفتها (العلامة محمد محمود ولد أتلاميد الشنقيطي) قال عنه “كان أولئك الطلبة الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا قط ضريبا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب” وقال عنه الأستاذ أحمد حسن الزيات إنه “آية من آيات الله في حفظ اللغة، والحديث، والشعر، والأخبار، والأمثال، والأنساب، لا يند عن ذهنه من كل أولئك نص، ولا سند، ولا رواية”.
تستضيفنا ثمانية قرون قال الدكتور محيي الدين صابر المدير العام الأسبق للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم إن أهلها (يقصد الشناقطة؛ أي الموريتانيين عموما) هم “الممثلون الأوفياء للثقافة العربية الإسلامية في نقائها وأصالتها، وإنهم سدنتها في قاصية ديار الإسلام المرابطون في ثغورها حفاظا عليها ونشرا لها وإشعاعا بها” تستضيفنا تلك الأيقونة التي قال الأديب العربي الأفريقي الكبير الطيب صالح عن أهلها إنهم سادة الأدب والشعر.
تستضيفنا هذه الجوهرة التي سحرت الجيولوجي الفرنسي تيودور مونو لينسج معها علاقة امتدت زهاء ثمانية عقود، وقال عنها -مما قال- إنها ملاذ الصحراء وإنها مكتبة في الهواء الطلق؛ لما تبعث عليه من الهدوء والطمأنينة، ولما تحوي من مخطوطات نفيسة تشهد على قرون من العلم والمعرفة والثقافة.
• فخامة رئيس الجمهورية؛
• أيها الحضور الكريم؛
لم تكن شنقيط، في يوم من الأيام، مجرد مدينة تاريخية؛ بل كانت الأساس والمرتكز الأبرز لهويتنا، لم تكن مجرد قبس من نور الماضي، إنها قنطرة التواصل الحي بين أجيالنا وبيننا والعالم، إنها البقاء والتمسك بشغاف المعرفة والثقافة والتاريخ، إنها رمز مادي ومعنوي لذاتنا الحضارية.
إن هذه المئذنة المتوثبة شموخا في قلب الصحراء بين الكثبان والأودية والهضاب تمثل رمزا لعناق حصري بين التاريخ والجغرافيا والثقافة والحضارة؛ إنها اختزال فخم لعلاقتنا الضاربة في الأمد بالمسجد والمحظرة.
وإن شكلها المادي البارز يمزج بين سحناتنا وألواننا وأعراقنا ولغاتنا؛ ففيها تختلط ملامحنا كلنا؛ فيها تتعانق الأودية والسهول والحجارة والنخيل والشيح والقيصوم.
• صاحب الفخامة؛
• أيها الجمع الكريم؛
نلتقي اليوم في مدينة شنقيط لازمة العلم والحج والتجارة والسفارة والانفتاح على العالم؛ نلتقي فيها لتمنحنا شيئا من بهائها وألقها ولتذكرنا بعزة الإنسان المفعم بالإرادة والجلد، لتذكرنا بقوتنا وقدرتنا على تجسيد أحلامنا مهما كانت جسامة وضخامة التحديات.
نجتمع بها لنتذاكر معا تلك الطاقة الهائلة التي منحها لقب “الشنقيطي” لصورة بلادنا أمام الآخر؛ لنستذكر من خلالها ذلك اللقب الذي ارتبط بكل أسمائنا ومن كل جهاتنا وأعراقنا حيثما حلوا وأينما ارتحلوا. تهبنا اليوم شنقيط، مثلما وهبتنا قبلها وادان وتيشيت وولاتة، جوا ممتلئا لحمة وانسجاما وأريحية.. جوا يعيد لنا ألق تنوعنا وثرائنا وتعايشنا من أيام إمبراطورية غانا وحتى عصر الجمهورية الإسلامية الموريتانية، مرورا بعهد المرابطين؛ حيث آخت الدولة بيننا دائما وألَّف الدين بين قلوبنا سرمدا.
• فخامة رئيس الجمهورية؛
• أيها الحضور الكريم؛
تتراءى غير بعيد منا الآن أنقاض مدينة آبير (أو شنقيط الأولى) التي تأسست في القرن الثاني الهجري وزارها حفيد الصحابي الجليل عقبة بن نافع الفهري (عبد الرحمن بن حبيب) وكانت، حسب المؤرخين والأنتربولوجيين، عامرة بالحياة والعلم والعلماء قبل ثلاثة عشر قرنا ونيفا من الآن، إنها حكايةٌ موغلة في الزمن ورثتها شنقيط؛ بادئة من حيث انتهت علما وحضارة وإشعاعا.
لقد كانت شنقيط الرئة الحية لحواضرنا ومدننا الضاربة في المدنية والزمن؛ لذلك اختارها المثقف والمفكر الراحل آمادو مختار أمبو المدير العام الأسبق لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) رحمات الله على روحه، ليطلق من أمام منارة جامعها العتيق، يوم 16 فبراير ١٩٨١نداءه الشهير لإغاثة مدننا التاريخية؛ ذلك النداء الذي أثمر تصنيف أربعة مدن موريتانية على قائمة اليونسكو للتراث العالمي المادي؛ هي، بالإضافة إلى شنقيط، مدن وادان وتيشيت وولاتة.
تلك المدن التي مثلت مربعنا الحضاري العلمي الثقافي؛ فكانت مضرب المثل في الإشعاع العلمي والثقافي، والازدهار الاقتصادي والتجاري؛ فعبرها تواصلت حضارات البحر الأبيض المتوسط مع حضارات الساحل والصحراء وشمال أفريقيا. عبر قوافل العلم والحج والملح أسس الشنقيطيون والوادانيون والتيشيتيون والولاتيون حضارتهم العلمية والثقافية، وعبرها كانوا جسر التلاقي بين الأندلس وشمال أفريقيا والمشرق العربي.
• فخامة رئيس الجمهورية؛
• جمعنا الموقر؛
ما كانت مدينة شنقيط نشازًا في تاريخنا ولا في جغرافيتنا، بل كانت جزءًا من نسيجٍ غنيٍ بالثقافة والتراث؛ حيث تتشارك هذه العراقة والأصالة مع مدن ثلاث هي وادان (واد العلم وواد النخيل) ملتقى طرق الحج والعلم والتجارة، ومدينة شارع الأربعين عالما و”البئر المحصنة” و”الرحبة”.
وتيشيت، توأم وادان، وذات المئذنة الفارعة التي يبلغ طولها 16 مترًا مع مكتباتها الأهلية ومخطوطاتها النادرة التي يُقال إنها تزيد على عشرة آلاف مخطوط.
وولاتة، مدينة الزخرفة والزركشة التي زارها الرحالة ابن بطوطة في الثلث الأول من القرن الثامن الهجري وانبهر بازدهارها اللافت. إنه تشابك خيوط التاريخ والجغرافيا، لتروي حكايات مجدٍ وإشعاعٍ ثقافي ما يزال يُثري حاضرنا ويُلهم مستقبلنا.
• فخامة رئيس الجمهورية؛
• حضورنا الكريم؛
لقد بهرت حضارة تلك المدن كل الذين عرفوها وكتبوا عنها من مؤرخين ومستشرقين؛ حيث رأوا فيها الصحراء الوحيدة التي استطاعت أن تخلق هوية ثقافية متكاملة؛ هوية احتضنت كل المعارف المتاحة أيامها؛ من أدب وفقه وتاريخ وفلسفة ورياضيات وفلك ولغة.. فكتب عن ذلك المؤرخ أبو عبيد البكري والرحالة ابن بطوطة والمستكشف البرتغالي غوميس أيانيس دي آزورارا.. لقد كتبوا بنَفَس انبهاري بادٍ للعيان.. لقد كتبوا عن تلك الجامعات (المحاظر) المسافرة دوما على أسنمة العيس، وعن تلك الحاضرة التي احتضنت أربعين فتاة تحفظ موطأ الإمام مالك.
• صاحب الفخامة؛
• جمعنا الكريم؛
إن تثمينكم البين لهذا الموروث الثقافي الغني ووعيكم العميق بارتباط مكانتنا بذلك التثمين عبّرتم عنه بأكثر من ملمح؛ فوجهتم بالاعتراف باكرا بأدوار ومساهمات كل الفاعلين في هذا التاريخ الثقافي؛ من حرفيين وبنّائين وعمال وفقهاء وأدباء؛ إنها اللبنة الأولى -صاحب الفخامة- في صرح العدل والإنصاف والمساواة الذي أسستم له وأرسيتم دعائمه. لقد مثلت تلك الخطوة اعترافا صريحا وكريما لأولئك المنسيين بما قاموا به من أدوار ظلت سنوات طويلة مغيبة ومتجاهَلة. إنها رؤيتكم الواعية المبنية على أن الفعل الحضاري يتكامل بالتنوع والتعدد والتراكم.
وفي ذات السياق وضعتم كذلك، من أجل الحفاظ على هذا الإرث الغني وتنميته، مقاربة ثقافية-تنموية تتجاوز رؤيتها الاحتفاء بالماضي إلى الاهتمام بالحاضر واستشراف المستقبل؛ كي تظل الحياة سيارةً في حواضر وحواضن ذلك الموروث؛ فوجّهتم بتعليماتكم السامية وإشرافكم المباشر -صاحب الفخامة- إلى إضافة مكونة تنموية متعددة القطاعات ل”مهرجان مدائن التراث” من أجل تثبيت الساكنة في هذه المدن؛ مع توفير وسائل العيش الكريم لها.
• فخامة رئيس الجمهورية؛
إن هذا المكون التنموي الذي أضفتموه إلى مدائن التراث، تستفيد منه اليوم مدينة شنقيط، على غرار وادان وتيشيت وولاتة وجول، بغلاف مالي وصل إلى أربعة مليارات أوقية قديمة، وفي مجالات عديدة ساهم فيها 19 قطاعا حكوميا، وشملت دعم الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه، ودعم للبنية الصحية والتعليمية، وتشغيل وتكوين وتثبيت للرمال، وافتتاح الإذاعات والمتاحف ومراكز التكوين المهني، ودعم المحاظر والمساجد والتعاونيات النسوية والمشاريع الصغرى، والاتصالات وغيرها من المصالح المرتبطة بتوفير الحياة الكريمة وبخلق فضاء للتنمية.
يضاف إلى ذلك تعبيد الطريق الرابط بين شنقيط وأطار؛ الذي ظل مطلبا ملحا لدى الساكنة من أيام الاستقلال الأولى؛ وها أنتم اليوم تبدؤونه خدمة لوطنكم ووفاء بعهدكم، لأهل شنقيط، في النسخة الماضية، وبتكلفة وصلت 12 مليار أوقية قديمة.
وفي ذات سياق خدمة الثقافة، استحدثتم -صاحب الفخامة- نسخة خامسة لمدائن التراث؛ تمثلت في مهرجان “جول” بولاية “كوركول” الذي تم تنظيم نسخته الأولى في السنة الماضية، ومثل بادرة حسنى للدفع بعجلة التنمية في ضفتنا الجميلة؛ تماما كما مثل سانحة مواتية للكشف عن كنوز حضارتنا وثقافتنا الثرية والعريقة المحاذية لضفاف النهر؛ فالأنهار والأودية كانت دوما مهدا للحياة والبناء والآثار.
• فخامة رئيس الجمهورية؛
• أيها الجمع الكريم؛
لقد امتازت هذه النسخة من مهرجان مدائن التراث بترفيع بارز للمحتوى العلمي، وذلك من خلال سلسلة من الندوات والمحاضرات تقدمها نخبة من الدكاترة والمحاضرين والباحثين، وتتناول كل المجالات العلمية والثقافية والتراثية المتعلقة بشنقيط؛ بدءا من مكانتها كمركز للعلم والتبادل الحضاري؛ وليس انتهاء بالأفق التنموي بها.
تستعرض هذه المكونة، من بين ما تستعرض، وسائل وآليات حماية التراث الثقافي، إضافة إلى الدور التاريخي للسفارة الثقافية الشنقيطية في المشرق.
كما تشمل البعد الثقافي والتنموي للتجارة عبر الصحراء، وبينها وشمال وجنوب القارة. إضافة إلى نقاشات منهجية علمية حول المحظرة ومناهجها العلمية، ودورها في الإشعاع الثقافي الشنقيطي، والإسهامات الثقافية والسياسية للمرأة الموريتانية، وفن المدح الشعبي ومزجه بين الأبعاد الروحية والأبعاد الترفيهية.
وفي هذه النسخة تمت طباعة ثمانية عناوين موريتانية، سنحتفي بمؤلفيها على هامش افتتاح المكونة العلمية. كما حرصنا على أرشفة فعاليات هذه النسخة وتوثيقها -ورقيا- وذلك عبر نشرية باسم المهرجان تصدر يوميا.
• فخامة رئيس الجمهورية؛
• أيها الحضور الكريم؛
رغم فضائنا الملتهب مطبات وأزمات، ورغم ما خيم على العالم من كوارث طبيعية وأخرى من صنع الإنسان.. رغم ذلك كله قُدتم السفينة بسكينة ووقار؛ فساد الأمن وتلاقت القلوب وعمّ الإخاء وارتفع سقف الطموح ديمقراطيا وتنمويا وثقافيا؛ وإن جلوسكم اليوم -صاحب الفخامة- في هذا الفضاء المفتوح بين زعيم المعارضة الديمقراطية وأعلى السّلط الثقافية الدولية لهو دليل على نجاح مقاربتكم المتعلقة بالأمن والانفتاح والتنمية. إن هذا الحضور الكيفي البارز يمثل اعترافا صريحا بالجهود المبذولة في سبيل ترقية تراثنا؛ تماما مثلما أنه يمثل شهادة جلية على أمننا واستقرارنا.
• فخامة رئيس الجمهورية؛
• جمعنا الكريم؛
في هذا المحيط المضطرب، سياسيا وأمنيا واقتصاديا، كانت رؤيتكم الثقافية، صاحب الفخامة، أقوى وأرسى، وكانت ثمار ذلك بينة غضة طرية؛ ففي السنة الماضية كانت نواكشوط عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي، وفي السنة القادمة، بإذن الله، ستتوج عاصمة للثقافة العربية؛ أما هذه السنة فقد شرُفت بلادنا برئاسة الاتحاد الأفريقي سياسيا وثقافيا واقتصاديا.
وفي إطار الحرية تم تصنيف بلدنا الأول عربيا وإفريقيا (والثالث والثلاثين عالميا) في مجال حرية الصحافة، والعاشرة دوليا في أمن الصحافة.
كما تمكنا بفضل تلك المقاربة الواعية الجادة من تسجيل المحظرة في السنة الماضية على قائمة التراث الإنساني اللامادي لدى اليونسكو، وملحمة صامبا غالاديو هذه السنة على ذات القائمة؛ إضافة إلى المصادقة على اللغة السونوكية كلغة عالمية عابرة للقارات. وتم كذلك تصنيف تسعة مواقع على قائمة التراث الإسلامي، وقبل أيام انطلقت الحفريات من جديد في مرقد الإمام الحضرمي (آزوكي) لاستكشاف المزيد من كنوزنا الأثرية النائمة بين تلك الوهاد والأودية؛ على أن يتوسع المشروع في السنة القادمة ليشمل أودغست وكومبي صالح وآغريجيت وغيرها من مواقعنا المصنفة وطنيا وإسلاميا.
• فخامة رئيس الجمهورية؛
• جمعنا الكريم؛
تضمنت نسختنا هذه، كذلك، حزمة من الأماسي الثقافية والأدبية والمديحية، بشقيها الشعري والغنائي، وبكل لغاتنا الوطنية، يحييها لفيف من الأدباء والفنانين والمداحة.. مصحوبة بعروض مسرحية هادفة وجادة. ويكتمل المشهد بتشكيلة من الفعاليات الثقافية والترفيهية تبرز روعة وجمال تنوعنا الثقافي وثراءه؛ حيث نتوافد من مختلف مناطقنا وجهاتنا، ونتعاطى بكل لغاتنا وألسنتنا؛ مما يبعث الطمأنينة بأن خطاب “وادان” خرج نباته طيبا بإذن ربه.
وتُبرهن قوائم المشاركين في نسخة “مدائن التراث” لهذا العام -كما وكيفا- على مستوى نجاح مقاربتكم الثقافية صاحب الفخامة، تماما مثلما برهن عليه الإقبال الواسع والاهتمام الكبير من لدن الشخصيات الدولية والإقليمية التي شرفتنا في هذه النسخة، وكذلك الشخصيات الموريتانية، على اختلاف مراكزها وألسنتها وانتماءاتها السياسية.
مرة أخرى؛ مرحبا بكم -فخامة رئيس الجمهورية- وبضيوفكم الكرام، وشكرا لكل الذين ساهموا في هذه الطبعة من مهرجان شنقيط؛ من وزراء وأطر وموظفين ومثقفين ومحاضرين وأدباء وفنانين وعارضين ومتسابقين ومنظمين.. شكرا لكم كلكم، وحللتم أهلا ونزلتم سهلا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته