بيـــــــان
بمناسبة ذكرى الاستقلال الوطني.
بيان حول تحديات ومخاطر كبرى.
شعبنا الكريم،
يحيي شعبنا الذكرى الرابعة و الستين لرحيل الجيش الفرنسي عن وطننا ، بعدما جثم الاستعمار العسكري المباشر عليه ستة عقود ، أذل فيها العباد و نهب البلاد بشهية مفتوحة. و إذا كانت هذه الذكرى تشتمل على جوانب أساسية من استعادة استقلالنا، تستدعي من حزبنا أن يهنئ شعبنا بمناسبة ذكراها، فإنه ما زال مطالبا بمواصلة النضال لاستكمال الاستقلال السياسي، الناقص، بتحقيق الاستقلال اللغوي و الإداري و بوضع يده على قراراته السيادية و سياساته الاقتصادية و تسييرها وفقا لمصالح الموريتانيين، دون ضغوط و لا تدخل من قوى محلية مرتبطة بالمصالح الفرنسية غير المشروعة.
شعبنا الكريم،
إن الاحتفاء بهذه الذكرى يأتي في ظرفية دولية حرجة و مضطربة، لطالما استنفر جزبكم، حزب البعث العربي الاشتراكي، منذ 2021، السلطة الحاكمة و الفاعلين فيها و النخب المرتبطة بها على استعجالات خطرها الزاحف على القارة الإفرقية عموما، خاصة في مستوى تداعياتها الأمنية المنبثقة عن تآكل هياكل النظام الدولي المتداعي، و محاذير آلام تخلق نظام دولي جديد. غير أن تلك التنبيهات لم تحظ بالاهتمام، و إنما ظل الماسكون بدواليب السلطة في شرود ذهني مفضلين التعاطي البدائي و عدم الاكتراث و “التحرز بالتفاؤل الحسن”، إزاء تلك الاستعجالات، على التفكير السيتراتيجي..
شعبنا الكريم،
أمام المآزق التي تتفاقم و تتعمق باتجاه مواجهة بلدنا لتحديات داخلية و إقليمية و دولية متشابكة المفاعيل- قد لا يجد ” المتفائلون بالفأل الحسن” الوقت الكافي للتشاور حول وجهة الهروب منها ، إذا وصلت، لا سمح الله، للمستوى الحرج، فإن حزب البعث، انطلاقا من حرصه على استقرار البلد و حفظ كيانه، يرى من واجبه الوطني و القومي أن يصارح الشعب الموريتاني ببعض التحديات التي تتعاظم أخطارها الكبرى من حوله دون وعي أو اهتمام من المنتفعين المخدرين بمزايا السلطة :
1- فعلى مستوى ثروة الغاز- التي ينتظرها الشعب الموريتاني بفارغ الصبر، كما كان شأنه مع استخراج النفط في عهد ولد الطايع، كأنها خشبة خلاص و عصا سحرية للتخلص من الفقر و التخلف من جهة، و من القلق الذي يخيم على مستقبل كيانه و سلامة وحدته الوطنية و الإقليمية- فإن السلطة، بخلاف نظام ولد الطايع في موضوع النفط، تلتزم صمتا مريبا في موضوع الغاز، ليس فقط في ما يتعلق بإشراك الشعب و قواه الحية و المعنية بأفراح هذه الثروة و مناقشة عائداتها و تصور المشاريع السيتراتيجية المبرمجة على هذا المورد ( الذهبي)، كما فعلت حكومة جارنا و شريكنا السينغال مع شعبها، و إنما حكامنا ينتهجون سياسة تغييب الشعب الموريتاني أيضا حتى عن عرض المخاطر الجمة، المفجعة في أحايين كثيرة، الناجمة عن مثل هذه الثروات الاستخراجية التي تجلب في ذات الوقت النعمة من جهة، و النقمة غير المنفصلة عن الأطماع الدولية و الإقليمية في هذه الثروات الكامنة في الدول الضعيفة! إن من غير المفهوم تجاهل الحملة الرئاسية الماضية للخوض في موضوع ثروة الغاز تماما و تنحّيته جانبا عن التوظيف الدعائي ، على غير العادة، كما لو كان هذا الغاز يتعلق بدولة أخرى في قارة أخرى، و لخدمة جهة أخرى، ربما حتى لا يعلق عليه الشعب أملا، أو يدرك له قيمة و دورا في تغيير أوضاعه التعيسة!
2- و على مستوى العلاقات مع دول الجوار ، خاصة حدود البلاد الجنوبية ، فإن نخب السلطة لا ينتهجون، في الواقع، أي مقاربة مدروسة و لا يمتلكون رؤية لتسيير التحديات الطبيعية للتطورات الدولية المتسارعة، التي تتفاعل تحت السطح ، في دول غرب إفريقيا و الساحل بالذات، و قد تصبح، في يوم أو ليلة،واقعا معيشا؛ الأمر الذي يحتم على العقلاء و الوطنيين في البلاد التفكير المعمق فيها للحيلولة دون مستوياتها الأكثر سلبية على بلدنا قبل أن تصبح في مواجهة مواقف يصعب تداركها. إن من هذه التحديات انعكاسات طرد فرنسا، مكرهة، من معاقلها الإفريقية و ما سيترتب عليه من ردود أفعال ذات أبعاد أوروبية لن تتردد في زعزعة دول و شعوب إفريقيا، إذا اتجهت نحو المحور الروسي- الصيني، خصوصا أن دولة مالي تقترب من الفشل بسبب الصراع البيني على خلفية عراك المحاور الدولية ؛ بينما السينغال يحكمها نظام سياسي جديد منتخب، لكنه موضوع سخط من فرنسا ، و يقوده شباب مدفوعين بحماس الوطنية و مرارة التاريخ الاستعماري ، مع قلة خبرتهم السياسية و تدني تجربتهم في تسيير العلاقات الدولية، خاصة أن المجتمع و الدولة العميقين في السينغال محكومان ، تاريخيا، بقوى موالية للدولة الفرنسية و مصالحهما مترابطة، و لا يستبعد حدوث اضطراب سياسي في هذا البلد الجار. يضاف إلى ذلك عامل عزلة موريتانيا المتزايدة في دول غرب إفريقيا التي تفر واحدة بعد الأخرى من حظيرة( فرنسا- إفريقيا) الاستعمارية، بينما لا يظهر أن حكام موريتانيا
الحاليين مدركون بما فيه الكفاية لهذا الواقع المتقلب، أو أنهم مذهولون بتقهقر فرنسا عن واقع الهيمنة على إفريقيا. و لا لزوم للأدلة على ذلك. أما على حدودنا الشمالية، فإن نزاع الصحراء الغربية المزمن قد انضاف إليه عامل انفتاح بلادنا ، غير المسبوق، على الشقيقة و الجار- الجزائر- و ما سينتج عن هذا الانفتاح من بنى تحتية و اقتصادية و تواصل مجتمعي ( طريق و سكة حديدية و تدفق للسلع و البشر و الأموال و الخبرات من الجزائر، و صولا للتواصل الشعبي و الاقتصادي مع الشقيقة تونس …) . إن هذا الانفتاح الجديد، الذي تأخر كثيرا و يجب تنفيذه، برغم حساسية الموضوع و تعقيده، لا ينبغي أن يحجب ما سيتسبب فيه من إزعاج و إرباك لحسبات جار و شقيق آخر ، لن يشارك الموريتانيين و الجزائريين في أفراح هذا التقارب و لا في نتائجه الطيبة، تخوفا مما ستصير إليه الأمور بموجب التفاعلات المجتمعية و التحولات الاقتصادية ذات الصلة بموضوع الربط البري بين موريتانيا و الجزائر؛ مما يفرض على بلادنا الاستعداد و التحسب المبكرين لمنع وصول ذلك الانزعاج إلى أسوأ احتمالاته، و ذلك بالحكمة و الوعي، و بالعمل على جعل التقارب ينتهي إلى وضع يخدم مصلحة شعب المغرب العربي برمته، و يجعله خطوة من الخطوات الضرورية على طريق تقارب أوسع و أشمل في صالح دول الإقليم كله.
شعبنا الكريم،
إن حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي تأسس على مبادئ قومية و لأهداف وحدوية ، يثمن كل تقارب و يدعم كل تعاون يحصل بين قطرين عربيين فأكثر ، إلا أنه، استشعارا منه بالمسؤولية الوطنية و المبدئية ، في خضم التحديات الاستثنائية، و ما خبره من التقلبات الفجائية في العلاقات الدولية، يحذر من النتائج السلبية الناشئة عن العلاقات المنحرفة ، حين لا تعرف السلطة الحاكمة ، على نحو دقيق، ما تجنيه و ما يضيع من يدها بسبب علاقاتها الدولية غير المتوازنة. إن أغلى ما يتمسك به أي شعب هو الكيان المعنوي و المادي لدولته، و أكبر المخاوف لديه هو تلاشي هذا الكيان.
في هذا السياق، فإن شعورا متناميا و متسارعا، مفعما بالغضب و الاستغراب، كما تعكسه أحاديث الموريتانيين في أوساط الرأي العام الوطني ، مرده أن دولة الإمارات العربية المتحدة تبسط وصايتها على كل شاردة و واردة في القرار الوطني الموريتاني حتى في تفاصيل التسيير اليومي للدولة و مواقع إنشاء مرافقها. إن الموريتانيين الذين يحتفظون بأجمل الذكريات عن طيب الذكر الشيخ زايد رحمه الله ، و الموريتانيين الذين يمتنون لأفضال دولة الإمارات العربية المتحدة في أحلك الظروف الاقتصادية عليهم، خاصة في ثمانينيات القرن الماضي ، إلا أنهم يخشون من
النتائج شديدة السلبية لمثل تلك التدخلات لأنها تحمل في تضاعيفها مخاطر كبرى تضر بتاريخ الأخوة و لا تخدم استمرار علاقات الود في المستقبل بين القطرين. فإذا ضاع كيان الدولة الموريتانية بتغييب سيادتها على قراراتها و تسيير شؤونها على إقليمها ، فلن يكون في الإمكان استعادتها، و في النهاية التلاشي و الزوال. إن تجاسر إمام المسجد الجامع( المعروف شعبيا بمسجد السعودية ) ، في الأيام الماضية، على كيل المديح لأمير دولة أخرى، لهو أحد المؤشرات على خلخلة هيبة السلطة الوطنية في وجه مغريات التدخلات من دول أخرى، و قرينة إمكان على تشكل شبكات ولائية خارجية لا يمكن التحكم فيها، إذا لم يوضع لها حد فوري.
لقد ارتكب النظام السوري، في نسختي الأب و الابن، خطئا عظيما بحق سوريا ، حين سمح للدولة الإيرانية بعمل خلايا عسكرية و أمنية خفية عن الشعب في شقق و غرف فندقية بالعاصمة دمشق، لم تتأخر تلك الخلايا في تشكيل مجاميع إعلامية و شبكات نفوذ سرعان ما تغلغلت أمنيا في كل مرافق الدولة السورية و مؤسساتها الدينية، و بالتالي تحكمت في قرار النظام و في علاقات المجتمع. لقد ابتلي العرب، خلال العقدين الماضيين، بفتن تنظيمات الإخوان المسلمين ، بدعم مالي من دولة قطر و القوى الغربية، في تلك الأقطار التي خربوها، فحولوا الانتفاضات الشعبية المشروعة،في 2011-2012، إلى أعظم حروب أهلية بين العرب في العصر الحديث. فالعرب الممزقون اليوم جراء تلك الفتن الدموية، يتحسسون رقابهم خوفا من ” ربيع دموي جديد”، بتمويل من قارون عربي فاسد آخر، أو قارونين يتنافسان بأموال العرب عبثيا، بأمر من القوى الغربية ذاتها، و لأهدافها أيضا، عنوانه “تحالف التصوف و التشيع” تحت عباءة الدفاع عن آل البيت، مقابل “تحالف تفريعات السلفية الوهابية و الجهادية و الإخوانية تحت ” يافطة الدفاع عن العقيدة الصحيحة و الوقوف في وجه أهل البدع و الباطنية. إن التسخين لهذه البلوى جرى تحضيره في مأمورية دونالد اترامب الأولى، في مشروع “خلطة الإبراهيمية” لتدمير الأقطار التي نجت من ” ربيع” الإخوان و قطر. و ها هو دونالد اترامب يعود، مجددا، في مأمورية ثانية، لدفة الحكم في بلده.
إن جريمة ” حرب “احميتي و البرهان ” الغبية ، التي تواصل تمزيق كل شيء في قطر السودان، و تناحر” مليشيات فائز السراج” و “كتائب خليفةحفتر” التي حطمت وجود الدولة في ليبيا، و تجربة التمرد الحوثي التي أحرقت اليمن يجب منع استنساخها في موريتانيا ،بكل السبل .كما يجب تجنيب تحويل موريتانيا إلى ساحة للصراع بالنيابة عن أمريكا و محورها ضد القوى الرافضة، في المغرب العربي، للتطبيع مع الكيان الصهيوني المجرم و المخططات التآمرية لتصفية القضية الفلسطينية، أو للنيل من قطر عربي آخر يرفض الاستسلام لأمريكا و فرنسا.
شعبنا الكريم،
و على صعيد أوضاع البلاد الداخلية، فإن الموريتانيين ما زالوا يتحدثون عن أوضاعهم البائسة ، كما لو كانوا في السنة 2005. فالظروف التي كانت سببا في إطاحة نظام الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد للطايع ساءت بنسبة ١٠٠% من بعده. إن من عدم ذكاء السلطة الحاكمة الاعتقاد بإمكانية خداع شعب يتلوى كالدودة المقطوعة في جحيم الفقر و ارتفاع الأسعار المذهل و المرض و العطش و عدم الأمن و التغريم اليومي الجنوني( حملة الضرائب) و الانهيار المتوالي للأوقية، و فساد المنظومة الإدارية و لا أخلاقية القوى العمومية و التنظيمية و وقاحة التمكين لكبار المختلسين من الاستحواذ على المال العمومي علنا تحت مسميات كرنفالات مدائن التراث و الاستعراضات البهلوانية لمجاميع التافهين المنعشين لها، بينما مئات الآلاف من الموريتانيين لا يجدون ما يشترون به قطعة خبز تسكت قرقرة أمعاء أطفالهم الجائعين …، هذا فضلا عن فرار أبناء الشعب الموريتاني، بالآلاف، نخبا و أميين، في وضعية المشردين، من وطنهم بحثا عن حياة كريمة و لقمة عيش في أمان. إن تخبط السلطة تارة يمينا، و تارة يسارا، في قرارات مرتجلة محكوم عليه سلفا بالفشل. فقرار المدرسة الجمهورية ،مثلا، الذي لاقى دعم الشعب و حماسه، اتضح أنه كان مجرد شعار دعائي فاقد للرؤية و لوسائل التنفيذ. إن أحاديث الموريتانيين عن الأبواب الموصدة للتغيير من قبل الفاسدين و تمسك رأس النظام بمن تأكد فساده من أطقم الأنظمة السابقة؛ و إبعاده للعقلاء من السياسيين و أصحاب الكفاءة المهنية و النزاهة التسييرية و دعاة الإصلاح من واجهة الشأن العام ، قد خلق خيبة أمل صادمة من سلطة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ، منذ منتصف مأموريته الأولى، التي تعهد للموريتانيين فيها بالقناطير المقنطرة و أبخس لهم عند الوفاء. وإذن، لم يعد في الإمكان إقناعهم بمستقبل مختلف عن وضعيتهم البائسة في ظل ذات النظام العاجز – الغائب في كل المناسبات التي يتوجب عليه الحضور فيها. فالموريتانيون بدأوا محاكمتهم لأداء النظام ، خلال مأموريته الجارية، في غيابه عن فيضانات النهر على القرى و التجمعات السكنية و المزارع ، و غيابه عن وباء الملاريا الذي تسبب في خسارات فادحة في الأرواح، هذه السنة، و في غيابه عن الحرائق التي إلتهمت مساحات كبيرة، في أكثر من جهة، من غطاء نباتي قلما تحظى بمثله البلاد. كما أن تهديدات الأمن الغذائي تظل كابوسا مخيفا لشعبنا، في مأمورية السلطة الجارية كما هو شأنها في مأموريتها الأولى، دون أي تدابير استراتيجية. فكلما تصاعد التوتر في حدودنا الجنوبية أو على حدودنا الشمالية، كان شعبنا ، التابع في غذائه كباقي ضرورياته الأخرى، كمن يستأجر رئة غيره ليتنفس بها!
إنه لم يعد في يد المنتفعين، من السلطة، سوى القمع و تفريخ مزيد من البؤس و الغبن و السحق النفسي و المعنوي لصالح شلة أوليغارشية باذخة ، من الأقارب و الأصدقاء و المنافقين، يتصرفون في أملاك الدولة و أموالها كما لو كانوا غير معنيين بالقانون و لا يتوقعون زوالا لسلطتهم. إنهم نسوا أن من أتوا بهم لكرسي السلطة كانوا ممتلئين بغطرسة الغرور و وهم الخلود. فكانت بداية المغامرة من صنعهم و الخاتمة من صنع “المجهول”.
لقد بلغ غضب الشعب الموريتاني ، من سلطة محمد ولد الشيخ الغزواني ، ذروته ، و كان حجم ألم الشعب على قدر إفراطه في التفاؤل الحسن بهذا الرجل، الذي يعرض بلدهم لخطر حقيقي، يستشعره جميع الموريتانيين، و إن تظاهر الفاسدون بإنكاره و سعوا للتغطية عليه.
شعبنا الكريم،
هذا هو واقع الفساد المؤرق للمشفقين على مستقبل السلطة و هو أيضا واقع القلق الوجودي المخيم على البلاد . و قديما قال الحكيم الإغريقي ” سينيكا” إنه في الخيبات المدوية ” يجب توقع كارثة في أي لحظة”. و قال حكيم آخر ” إن شعبا يفتقر لمقومات البقاء لهو الأشد تعطشا للموت و الخراب”. و إذا لم تحدث معجزة انقلاب سياسي و شعبي بالضد مما يجري من إنهيارات، فستغطي الأغصان الشائكة كل الطريق ، و حينها فلا بد من تنحيتها. إنه لا يوجد أمر أشق على الموريتانيين، في ظروفهم السيئة الراهنة، من الشعور بالعجز عن تغييرها و خيبة الأمل بالسلطة الحاكمة، في ذات الوقت.
نوفمبر، 2024.
قيادة قطر موريتانيا.