قبل أيام وصلت موريتانيا إلى سدة قيادة الإتحاد الإفريقي بعد أن تسلم رئيسها محمد ولد عبدالعزيز زمام القيادة الدورية
43 عاما هى الفترة الفاصلة بين الرئاستين، خاضت خلالها موريتانيا ذلك البلد الواقع جغرافيا وثقافيا ك همزة وصل بين العالم العربي والقارة السمراء، أشواطا طويلة ومراحل عديدة لبناء استقلالها وبلورة وحدتها الوطنية والعمل لتعزيز انتمائها العربى والإفريقى على حد سواء. وقد ظلت ثنائية الهوية والإنتماء أهم خصائص موريتانيا، وهو ما يعطيها ميزة نسبية ويفرض عليها فى الوقت ذاته تحديات أكبر، وهى الدولة التى هيأها التاريخ والجغرافيا كما يدرك أهلها لتكون صلة ربط بين شمال افريقيا وجنوبها، وبين العالم العربى والقارة الإفريقية، وفيها تتعايش الثقافتان العربية والغربية دون أن تتعارضا. واليوم تعد موريتانيا حلقة ربط مهمة بين أطراف القارة الإفريقية، ويمكن أن تلعب دورا مهما على هذا الصعيد بقدر إنجازها على الصعيد الداخلى.
وعقب استقلال موريتانيا في الثامن والعشرين من نوفمبر 1960 برزت مشكلة ثنائية الهوية والانتماء، وثنائية الأصول العرقية والثقافية للشعب الموريتانى حقيقة لا يمكن لأى قائد موريتانى أن يغيبها أو يتجاهلها دون أن يعرض وجود البلد نفسه لأخطار جسيمة، كما تعد معرفة المسئولين الموريتانيين لها واعترافهم بها من الأمور الضرورية لبناء الوطن الموريتانى على أسس متينة، كما يؤكد المختار ولد داداه أول رئيس لموريتانيا فى مذكراته، حيث يقول كان على أن أناضل ضد خلق هوة بين الموريتانيين الذين يحدوهم شعور وطنى واحد، ويختلفون بشكل وسائل تحقيق طموحاتهم وقد أدرك ولد داداه مبكرا أن الموريتانيون بحاجة إلى حزب ديمقراطي جماهيرى يجدون فيه جميعا مكانهم دونما اعتبار لأصولهم وفئاتهم الإجتماعية أو أجيالهم، وكان يؤكد: نحن بحاجة إلى حزب يكون شغله الشاغل هو محو كل الفوارق والقضاء على الجهوية والقبلية لصهر الوحدة الوطنية، ويتعين عليه بناء موريتانيا جديدة تنسجم فيها التأثيرات المتناقضة. وقد سعت وقتها الغالبية العظمى من البيضان فى موريتانيا وهو المصطلح الذى يطلق على العرب أو ذوى الأصول العربية (يمثلون أكثر من 85 بالمئة من سكان البلد حسب آخر الإحصائيات الرسمية – 1986) إلى جعلها لغة رسمية، أما الناطقون بالفرنسية والزنوج منهم على وجه أخص فلم يقبلوا ذلك.
ومن هنا بدأ الحديث عما اصطلح على تسميته ب المشكل الثقافى فى موريتانيا المستقلة كمرادف لتعميم تعليم اللغة العربية، والإعتراف بها كلغة رسمية للتعليم والإدارة. رغم أن العربية دخلت موريتانيا منذ القرن السابع الميلادى مع الإسلام، الذى ترسخ فيها فى القرن الحادى عشر فى ظل امبراطورية أو دولة المرابطين، وتعزز خلالها مع توافد الهجرات العربية من المشرق العربى تعريب القبائل البربرية تدريجيا، وفى الوقت نفسه دخلت اللغة العربية بوصفها لغة الدين الإسلامى إلى الجنوب الموريتانى الزنجى، وهكذا عرفت مختلف المناطق الموريتانية فى القرنين الـ18 و19 نهضة ثقافية عربية وإسلامية جعلت منها منارة ثقافية، لم يقتصر إشعاعها على غرب إفريقيا، وإنما شمل كذلك المشرق والمغرب العربيين، فقد درس الأساتذة والعلماء الموريتانيون فى الأزهر الشريف وفى مكة والمدينة والسودان وتركيا وغيرها، وعرف أولئك العلماء بالشناقطة نسبة لمدينة شنقيط، وهى التسمية التى أطلقها العرب المشارقة على موريتانيا قبل استقلالها تحت اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
وكان المستعمر الفرنسى قد اتخذ خلال استعماره لموريتانيا موقفا مزدوجا تجاه اللغة، ففى حين أبدى تسامحا بل وربما تشجيعا لتعليم العربية فى الشمال وسمح بإنشاء مدارس مزدوجة، حارب اللغة العربية فى الجنوب وأحل محلها تدريجيا اللغة الفرنسية، وقد عارضت وقتها معظم الأسر بالجنوب ذلك من منطلق أنها لاتريد إرسال أبنائها إلى مدارس الكفار، وقد لجأت الإدارة الفرنسية إلى استخدام القوة أحيانا لفرض تعليم لغتها بالجنوب.
وقد أنشأت المجموعتان العربية والزنجية إن جاز التعبير حضارات متعاقبة فى موريتانيا منذ قدم التاريخ وظلتا تتعايشان، وصار الإسلام الديانة المشتركة التى تعزز الترابط بين جميع سكان موريتانيا. حتى أن القرآن وأمهات الفقه المالكي والشعر الجاهلي تمت ترجمتهم إلى اللغات الزنجية المحلية، وطباعتهم بأبجدية عربية، لازالت مستخدمة في الكثير من بلدان الساحل الإفريقي. وكانت موريتانيا أو شنقيط مركز إشعاع علمي وثقافي، حيث شهدت منذ القرن العاشر الهجرى نهضة ثقافية شاملة إلا أن أهلها لم يهتموا بتدوين حركتهم العلمية وتوثيق أحداثها والتأريخ لها.
وقد بنيت شنقيط القديمة سنة 160 هـ 776 م وعاشت قرونا ثم اندثرت لتنهض على أنقاضها مدينة شنقيط الحالية بما تحويه من كنوز التراث الثقافي المنسي، ولا زالت مدينة حية تقاوم الظروف الصعبة. وترجح بعض المصادر أن اسم شنقيط يرجع إلى نوع من الأواني الخزفية يسمى الشقيط كانت تشتهر به وان مؤسسها حبيب بن عبيدة الذي حفر بئرا في هذا المكان أثناء حملته بالصحراء سنة 116 هـ 723 م. وهناك رواية أخرى تقول بأن كلمة شنقيط ذات أصل بربري ومعناها باللغة البربرية عيون الخيل. وكانت شنقيط مدينة واحات ومحطة هامة من محطات تجارة الصحراء وكان الحجاج يتجمعون فبها ثم ينطلقون في قافلة واحدة لأداء فريضة الحج فسمي سكان هذا المنطقة الشناقطة نسبة إلى مدينة شنقيط التي تعزز دورها التجاري والديني في أوائل القرن 11 هـ حتى أصبحت العاصمة الثقافية.
والناظر إلى موريتانيا يجد موقعا جغرافيا مناسبا لخلق شعب مزيج بين الأفارقة في جنوب القارة والعرب والبربر في الشمال. وفعلا شكلت موريتانيا عبر العصور نقطة وصل وجسرا تجاريا ربط ما بين الشمال والغرب الإفريقيين، تشكل في تجارة القوافل بين تمبكتُو وسجلماسة، ونشأ فيها تجمع سكاني ذو ثقافتين متعايشتين ويجمعهما الإسلام.
وفي بداية القرن الحادي والعشرين لا زالت موريتانيا مقسمة إلى مجموعتين سكانيتين هما البيضان والزنوج، تعيشان معا في المدن الكبرى، ويسكن الأفارقة، تقليديا بمحاذاة النهر، لأنهم مزارعون بينما يوجد البيضان في المناطق الأخرى لأنهم في الأصل بدو، حيث أن بقية البلاد صحراوية أو شبه صحراوية. وفيما يبدو فإن الإسلام، القاسم المشترك، والتعايش التاريخي يحتويان كثيرا من الفروق الكامنة بين مكوني هذا الشعب. وأنشأت المجموعتان العربية والزنجية إن جاز التعبير حضارات متعاقبة فى موريتانيا منذ قدم التاريخ وظلتا تتعايشان وهناك بعض السمات المشتركة بين المجموعتين، لكنها لم تمح خصوصية كل مجموعة.
ومن هذه المشتركات التراتبية الإجتماعية والحضور القوى للإسلام والتكامل الإقتصادى بينهما، وكذلك الروابط الإثنية والثقافية، حيث اختلطت الأعراق عبر التزاوج.
غير أن هذه السمات المشتركة لا ينبغى أن تحجب الاختلافات الحقيقية كذلك، فالمجتمع البيضانى مرتبط بالفضاء الإجتماعى والتاريخى للمغرب العربى، ومن ثم بالعالم العربى، فيما ترتبط المجموعة الزنجية بالفضاء الاجتماعى والتاريخى لغرب إفريقيا، ومن ثم بإفريقيا جنوب الصحراء، وعلاوة على هذه المعطيات الرئيسية تبدو موريتانيا كما يرى الباحث والكاتب الفرنسى فيليب مارشزين على درجة عالية من التعقيد، فهى دولة معقدة برأيه بالنظر إلى فسيفساء الإختلافات التى تميزها، بغض النظر عن الخطاب الرسمى الإندماجى، ففيها تلتقى الصحراء والساحل، ويلتقى العرب البربر والزنوج الأفارقة، وتتحدد العلاقات فيها برأيه بين المكونات المختلفة عبر التاريخ من خلال جدلية التكامل والتصادم، ولا يظهر التوتر فيها بين المجموعات العرقية فحسب، وإنما يضاف إلى ذلك الصراعات ذات الطابع التراتبى والطبقى التى تنجم عن التشكيلات الإجتماعية التاريخية، التى تحكمها حدود صارمة.
وما زال جدل الهوية والمواطنة قائما في موريتانيا رغم مضي أكثر من نصف قرن على تأسيسها. ويرى الكاتب الموريتانى محمد سعيد بن أحمدو إن الهوية فى موريتانيا تحكمها مجموعة من المتغيرات وهذه المتغيرات بالنسبة للحالة الموريتانية لا تحسم خيار الهوية، فمن الناحية الجغرافية موريتانيا دولة طرفية في العالم العربي وهي دولة جوار بالنسبة لأفريقيا، أما من ناحية التركيبة الإثنية أو العرقية في موريتانيا فإن هذه التركيبة تتكون من أغلبية عربية وأقلية زنجية بالإضافة إلى أن العوامل الأخرى كالنخب الحاكمة الثقافية كلها لا تحسم خيار الهوية الموريتانية بقدر ما تؤكد وتثير نفس الإشكال. ويقول أنه مع ميلاد أو بروز كيان الدولة الموريتانية الحديثة الاستقلال سنة 1960 برزت أو ظهرت إشكالية الهوية السياسية في وقت مبكر، ففي ذلك الوقت سحبت مجموعات من الزنوج كانت ضمن حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني الموجود في ذلك الوقت وشكلت كتلة مستقلة تسمى كتلة غورغول تعبيراً عن مطالبها هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي فقد كانت هنالك عوامل أيضاً ضاغطة منها سعي فرنسا الدولة المستعمرة سابقا إلى ضم موريتانيا إلى التكتلات الأفريقية التي كانت تتشكل في ذلك الوقت مثل منظمة الأقاليم الصحراوية المشتركة، ويرى أن هناك عدة عوامل تؤثر فى هوية موريتانيا، منها الموقع الجغرافى والتركيبة الإثنية والبعد التاريخي والبعد الثقافي، وأن هذه هي المحددات أو الأبعاد تحسم الهوية الموريتانية، وأنه في فترة الستينيات كانت هنالك تحديات أمام هذه الهوية ولذلك انتقلت العلاقات الموريتانية العربية ومرت بمراحل منها مرحلة تأزم في البداية ثم مرحلة تقارب ثم مرحلة اندماج لأن موريتانيا بلد عربي ولكنها لم تنضم إلى الجامعة العربية إلا في سنة 1973 يعني تأخرت أكثر من 13 سنة ومن المفارقات هنا أن انضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية كان بطلب مغربي كما كان الاعتراض أيضاً بسبب الموقف المغربي (إثر ضغط من الرئيس عبدالناصر حسب الرواية الرسمية الموريتانية).
واليوم يتطور الوعى وأصبح فى موريتانيا من يرى أن اختلاف الأعراق والثقافات أشمل وأجمل مظاهر القوة والعطاء بما يوفر من تنوع وإثراء. وأنه لابد من تجاوز النزاعات ودوامة الكر والفر والتصالح والتنافر حينا والاختلاط والتمازج حينا آخر، ويرون أنه رغم كل الأوضاع المتناقضة غالبا والمتقاربة نادرا فإن هنا مفارقة استثنائية عجيبة – فإن المكونات الموريتانية لم تٌضمن قاموس لغتها التمييزية أي نمط سلطوي يحفظ خصوصيتها وفوقيتها على حساب الأخريات، الأمر الذى استطاع على الرغم من وجود جدلية الاختلاف بما تحمله من عوامل التنافر والتصادم أحيانا أن يؤسس عمليا بهذه التكوينة الإنسانية المتعددة الثقافات لمشروعية تاريخية صلبة فى المنطقة التي كانت وما زالت نقطة تلاقح الحضارات.
ويرى الباحث الموريتانى محمدو ولد محمد المختار أن صعوبات كبيرة اكتنفت البدايات الأولى لنشأة الدولة الوطنية في موريتانيا، وتشكيل هوية وطنية جامعة غير أنه يرى أن الحديث عن الهوية الوطنية في موريتانيا وفي غيرها فضلا عما يطرحه المفهوم من الإشكالات، يبقى حديثا نسبيا وإشكاليا، ذلك أن الهوية بطبيعتها ليست شيئا ناجزا يكون أو لا يكون، فالهويات هي من صنع أهلها، وهذا ربما يدفع للإعتقاد بوجود حد أدنى مفترض من الاتفاق حول هوية موريتانية على نحو ما، ويرى أن قيام الدولة الوطنية الموريتانية الحديثة في ظل حصول اختراق ثقافي استعماري فرانكفوني هدد ولا يزال تلك الهوية الحضارية التاريخية للشعب الموريتاني، ويرى أن بناء دولة المواطنة أصبح ضرورة قصوى لبقاء الكيانات الوطنية، وحلا سلميا للتناقضات الثقافية في البلدان ذات التعدد الإثني كموريتانيا. ويرى أن الموريتانيين اليوم يسلمون بأنهم بلد متعدد الأعراق والإثنيات، تتعايش فيه أغلبية عربية واضحة على الأقل بالمعنى الثقافي (تتشارك هذه الأغلبية اللغة والقيم والزي والعادات والتاريخ) وأقليات زنجية بولارية وسوننكية وولفية لها مميزاتها الخاصة، وإن كانت تتقاسم مع مجموع الموريتانيين الدين والبلد والتاريخ والجغرافيا والمصير المشترك، فضلا عن الكثير من القواسم الحضارية الأخرى). وهذا يفترض في المضمون الثقافي ضرورة التعايش والتفاعل والتثاقف بين اللغة الرسمية للأغلبية واللغات الوطنية للأقليات الأخرى، كما يفترض دينيا ضرورة النصرة وتحقق الأخوة الدينية والوطنية، أما قانونيا فلا بد من التأكيد على حق الجميع في مواطنة كاملة وصادقة تحفظ الحقوق وتؤدي الواجبات بصرف النظر عن أي اعتبارات لونية أو عرقية أو لغوية أو فئوية أو جهوية أو سياسية طبعا أو غيرها (كما نصت على ذلك المادة الأولى من أول دستور موريتاني، بإلغائها لجميع أشكال الفوارق الثقافية والعرقية والإجتماعية، وإعلان المساواة بين جميع المواطنين). ويذهب إلى أن الموقع الجغرافي وهو أحد ثوابت الهوية الوطنية، فإن وجود الإقليم الموريتاني بين فضائين عربي شمال إفريقي (المغرب العربي) وزنجي غرب افريقي يحتم بناء العلاقات الجيواستراتيجية في ضوء تلك الاعتبارات وعدم الاعتراض على تفعيل أي منها. بصرف النظر عن اعتبارات المفاضلة أحيانا بناء على معايير موضوعية اقتصادية أو سياسية أو واقعية مصلحيه. كما أنها على الصعيد الثقافي تواجه في خياراتها التربوية، آليات مجابهة مشكلات الاختراق الفرانكفوني، الذي تفاقم وتعاظم دوره خلال الخمسين سنة الماضية، بسبب التبعية الثقافية والاقتصادية التي رسختها النظم الوطنية بعد رحيل الاستعمار.
وهناك بعض النخب الموريتانية التي ترى اليوم أن دولتهم المتعددة الأعراق والثقافات بامتياز، لا تزال تواجه تحديا حقيقيا يتمثل في استهداف وحدتها الوطنية إثر سياستها الخارجية طرد السفير الإسرائيلي وقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني. كانت موريتانيا، ولا تزال منذ الإستقلال تعتبر نفسها دولة عربية منفتحة على إفريقيا، مما يجعلها العمق الإستراتيجي للعالم العربي الذي يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى حضور إفريقي في المحافل الدولية لصالح القضايا العربية، كما نجح القادة المؤسسون للإتحاد الإفريقي، من أمثال الرئيس جمال عبدالناصر والرئيس المختار ولد داداه، من الوقوف في وجه التطبيع بإفريقيا، التي نجحوا في كسب دعمها للقضية الفلسطينية ولسائر القضايا العربية في ستينيات القرن العشرين، كما نجحوا فى حشد الدعم العربى وساهموا فى جلب التأييد العالمى للقضايا العادلة لبقية الشعوب الإفريقية، وعلى رأسها قضايا التحرر من الإستعمار وقضية كفاح شعب جنوب إفريقيا ضد نظام التمييز العنصرى بزعامة المناضل نيلسون مانديلا ورفاقه.