أمران في غاية الأهمية ويجب على الدولة أن تقوم بتحديثهما حتى يواكبا العصر ويتحررا من الفقهاء الذين يستقون معلوماتهم من التراث البدوي المحض المتمثل فيما به الفتوى من نوازل ومسائل وأقضيات تتعلق بأحوال أهل البادية الذين يرجعون في مسائلهم إلى نصوص خاصة بهم هي عبارة عن مختصرات نثرية مليئة بالإشارات المبهمة أو أنظام شعرية معظمها في بحر الرجز المشطور وليس لشيء من ذلك كله من قداسة
وبغض النظر عن ماهية تلك النصوص فإن فقه البدو لم يعد يصلح لأهل البدو أنفسهم، فكيف يصلح لدولة تحتضن سفارات العالم، وتقع في حيز جغرافي حساس، وتتجاذبها الأطماع من كل جهة، ويبحث أعداؤها في الداخل والخارج عن مبررات لإدانتها أو ذرائع للهجوم عليها .
إن دولة كهذه أو أي دولة في هذا العصر لا ينبغي أن تعتمد في الأمور الحساسة كالفتوى والتوجيه، على أصحاب العقليات المتخلفة قطعا، والمعارف المحدودة جدا، وهؤلاء هم معظم من تعتمد عليهم الجمهورية الإسلامية الموريتانية اليوم في كل هذه الأمور البالغة الحساسية والتعقيد وتحتاج إلى كثير من التجديد والترشيد، لا سيما في مجتمع حديث عهد بممارسة الرق انطلاقا من هذه النصوص البدوية البائدة، وتلك هي الحقيقة المرة التي لا يجرؤ الكثير على قولها ، لكني أعتقد أنه آن الأوان لقول الحقيقة لأننا ولأول مرة – في تاريخ البلد بعد الرئيس المؤسس المختار ولد داداه – نحظى برئيس تسمح له ثقافته بإعادة النظر في كل ما لدينا من موروث.
والذي يلاحظ ما يتمتع به الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، من أخلاق راسخة وثقافة واسعة وأهلية قيادية واضحة، تتجلى في حلمه وكياسته وتغاضيه عندما يستهدف شخصيا، وصرامته في محاربة العقليات المتخلفة البائدة، التي تقوم على الصيت الكاذب والتراتبية الزائفة وتهميش المواطنين الشرفاء
وانطلاقا من هذه الأمور كلها فإنه يتحتم علينا الآن دون تأخر وأكثر من أي وقت مضى أن نصارح الرئيس بأن الدولة أكبر من المذاهب، وأوسع من الطوائف، وأشمل من الأديان.. وهذه حقيقة ملموسة لا ينبغي أن يختلف عليها اثنان، فالدولة شاملة لكل توجهات مواطنيها والمقيمين على أراضيها والعابري سُبُلِها وممراتها، ولا ينغي لها أن تسلم زمام الأمور الحساسة كالفتوى والتوجيه لمن هو محكوم بأي مذهب غير مذهب الدولة ، ومذهب الدولة هو المذهب الذي يجب أن يتسع للجميع بغض النظر عن خلفياتهم العقدية ومرجعياتهم الفلسفية وتوجهاتهم الفكرية ..
وبالتالي فإنه لا ينبغي للدولة الموريتانية في الألفية الثالثة أن تظل – في الفتوى والتوجيه – رهينة لموروث فقهاء البدو الذين صرحوا في كتبهم أنهم غير معنيين بفقه الحواضر والمدن بما في ذلك أحكام الجمعة وقد صرح بذلك صاحب الكفاف في قوله:
“مبينا لما به البلوى تعم * لأمر الاشياخ بأثرة الأهم”
“لا ما استبد ببلاد نائيه * كالجمعات وشراء الأهوية ”
ذلك أن صناعة الفتوى – إذا جاز التعبير – تحتاج إلى ما يحتاج إليه القضاء من أعوان كمحامي الدفاع، وجهة الإدعاء ولغة مشتركة بين القضاء وأعوان القضاء حتى يتسنى للقاضي أن يختبر ما عنده من فهم ويمحص ما لديه من معلومات قبل النطق بالحكم وإبرازه للعلن .
وكذلك الفتوى فلا ينبغي للدولة أن تعتمد فيها على طيف من مذهب واحد أو فكر واحد أو خلفية واحدة ، بل لا بد أن يتجمع فيها لفيف من المدارس الفقهية المختلفة وفقهاء القانون وحقوق الإنسان، وخبراء علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة وتاريخ الأديان من مختلف الملل والنحل … حتى تكون الفتوى شاملة ومنضبطة، تحقق مصلحة المستفتي مع مراعاة المصالح العليا للبلد
وإلا فإن الفتوى ستظل دليلا على الجهل والتخلف، وعاملا في الفوضى والتطرف الأمر الذي يقلل من هيبة الدولة ويضعف من مصداقيتها ويحول دون تحقيق العدل الذي أمر الله به
وأول ما ينبغي أن ندركه جميعا في هذا الصدد أن الفتوى والتوجيه أمر لا يجوز التفريط فيه بحال، فهو خطاب نتأثر به من داخلنا، وواجهة نطل بها على العالم من حولنا، وينبغي للدولة أن لا تعتمد في الفتوى والمظالم وإعداد الخطب وإدارة المحاظر والمساجد والتوجيه الإسلامي بشكل عام إلا على أهل الخبرة والاختصاص امتثالا لقول الله تعالى: فاسأل به خبيرا ، وقوله تعالى : ولا ينبئك مثل خبير، وقوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
والسلام عليكم ورحمة الله
أحمدو حبيب الله (المهدي)