قبل الإسترسال في المحور الثاني من مقال محاربة الفساد ( القطاع العقاري نموذجا )، نذكركم دائما بأن هذه السلسة من المقالات، الهدف منها التضامن مع رئيس الجمهورية في محاربة الفساد و محاولة خلق تيار وطني عريض، ينتظم خلف رئيس الجمهورية فيما عبر عنه في خطاب عيد الإستقلال الماضي، من سعيه لمحاربة الفساد و المفسدين، ولن نخرج في كتاباتنا عن الإطار المهني و ما يتطلب ذلك من الإنضباط الوظيفي و المحافظة على أسرار العمل.
بخصوص الفساد في القطاع العقاري، بلغ ذروته عامي( 2013- 2014 ) بعد أن سيطرت مافيا الفساد على وسائل إنشاء المخططات الحضرية، و تشريع القطع الأرضية و ترسيم حدودها، و من ثم القيام ببيعها في السوق العقاري، و باتت الدولة مغيبة تماما، و أصبح إمتهان التزوير و التحايل على العقار العمومي بالتحديد وسيلة للحصول على المال السريع و بكميات ضخمة. و تشكلت طبقة عريضة، هي التي تتولى تنفيذ جميع حلقات التحايل كل حسب إختصاصه، و فيما يعنيه، القاسم المشترك بين أفرادها هو الثراء الفاحش.
بعد تأكد الجهات الرسمية، من أن الملف العقاري أصبح خارج السيطرة، قررت في منتصف سنة 2014 بالتحديد إرسال بعثات تفتيش متعددة، و كانت النتيجة بأن التزوير عمت به البلوى، و أنه أصبح واقعا و تداعياته خطيرة على الاقتصاد الوطني برمته. و قرر النظام في تلك الفترة مسح الطاولة بالقائمين على ملف العقار في وزارة المالية و وزارة الإسكان، فأقال المسؤولين في قطاع العقارات و إدارة العمران، و علق العمل بجميع الاقتطاعات الريفية المدمجة في المخطط الحضري بغير وجه حق، و إكتفى بهذه الإجراءات – رغم فداحة الأفعال – و لم يُرَتِّبْ عقوبة و لم يصادر أملاكا، على باقي المجموعة الضالعة في عمليات التحايل المنظم.
بعض أدوات نهب المجال العقاري:
من بين الأساليب التي عمدت إليها مجموعة المزورين للتحايل على ثروتنا العقارية:
١- طباعة رخص الحيازة لمجموعة كبيرة من القطع الأرضية و العمل على دمجها في الأرشيف العقاري الموجود في ولاية نواكشوط، وهذا هو السبب الرئيسي لتزايد المنح المتعدد لأكثر من قطعة، و هو ما ترتب عليه تراكم ملفات النزاعات العقارية على رفوف مكاتب الجهاز الإداري و الجهاز القضائي؛
٢- التلاعب بالمخططات الحضرية لمقاطعات نواكشوط أساسا و نهب ما أمكن من الساحات العمومية، و إعادة رسم الشوارع بهدف الحصول على المزيد من القطع الأرضية، لتتم طباعة وثائق حيازة لها جديدة و أرشفتها؛
٣- إعتماد أعداد هائلة من رخص الحيازة في تلك الفترة دون التأكد من صحتها، من طرف الإدارة العامة للعقارات و أملاك الدولة، والسماح لها بالقيام بإجراءات المخالصة، مما يعطيها لبوسا قانونيا؛
٤- القيام ببناء بعض البيوت الصغير و المتباعدة، و أحيانا بناء حِيَّطْ قصيرة و أحَايِينَ أخرى وهي الكثيرة وضع علامات على هذه القطع الأرضية.
فريق التزوير هذا طور من أساليبه، و باشر عمليات التحايل على مقررات المنح المؤقت و النهائي و السندات العقارية، و التلاعب بها من خلال:
أ- تزوير مقررات المنح المؤقت و النهائي؛
ب- دمج أسماء و أرقام قطع أرضية، في صفحات مقررات منح نهائية صالحة؛
ج- تزوير مقررات المنح المؤقت و مقررات المنح النهائي بإسم حكام مقاطعة واد الناقة و والاة الترارزة و انواكشوط، لمئات الهكتارات التابعة لولاية نواكشوط، على أنها إقتطاعات ريفية تابعة لمقاطعة واد الناقة، مستغلين ثغرة عدم الوقوف على ترسيم الحدود النهائي و المُعْتَمَد لمقاطعاتنا و ولاياتنا؛
د- دمج هذه الاقتطاعات الريفية في المخطط الحضري لمدينة نواكشوط، و من ثم الشروع في إستصدار لها سندات عقارية و تجزأتها على أساس المخطط الحضري، و إعطاء لكل قطعة أرضية سند عقاري خاص بها، مما يمكن من بيعها بأسعار مرتفعة؛
إن أساليب التحايل كثيرة و متعددة، و هذه أمثلة على بعضها، وقد جنى فريق الفساد و الإفساد من وراء عمليات بيع الأراضي العمومية و الخصوصية المتحايل عليها بهذه الأساليب و غيرها عشرات المليارات دون كبير مخاطرة.
من خلال ما سبق يمكن إستنتاج:
* أن القائمين على عمليات التزوير والتحايل، مجموعة منظمة متضامنة، نهبت ثروة هائلة، بسبب نجاحها في إختراق مفاصل الإدارة، و صرفها السخي على أنشطتها القذرة، مما يعني أننا أمام تحالف قوي مُكَوَّنْ من إداريين و وكلاء إدارة داخل الجهاز الإداري، و رجال أعمال من الصف الأول قادرين على تهيئة البنى التحتية للتزوير و تمويل عمليات الرِّشَى المطلوبة؛
* إفلات هذه العصابات من العقاب المناسب، بسبب تراخي الجهاز الحكومي إتجاهها، قلل المخاطر المترتب على القيام بهذا النشاط، و ضاعف من عمليات النهب الممنهج للمجال العقاري؛
* أن الدولة و في ظل هذا التزوير و التحايل المنظم، أصبحت مسلوبة من إختصاص المنح، و لا تتحكم في تنفيذ سياستها العقارية في تلك الفترة، و إنما مجموعة نافذة هي التي تتحكم في إصدار وثائق الملكية و تعمل على تسويقها؛
* ضياع الكثير من الإيرادات العقارية، وذهابها إلى جيوب الفاسدين عوض تحويلها إلى خزينة الدولة.
مما يجب التنبيه عليه أن تحالف المفسدين الفاسدين في المجال العقاري تراجعت سطوته بعد الإجراءات الحكومية التي تم إعتمادها بداية سنة 2015، و عاش فترة كمون إلى غاية 2020، إستعاد حيويته و نشاطه، و المُذَكرة الصادر يوم 14 من الشهر الجاري عن الأمين العام لوزارة المالية، دليل على قوة وحضور مافيا الفساد في هذه الفترة.
يتواصل العرض، و في المقال القادم بحول الله نناقش أسباب فشل القطاع العقاري في بلادنا، و تدني مساهمته في تمويل التنمية، رغم أنه دعيمة أساسية من دعائم التنمية، على أن نختم هذه السلسلة بمقترحات قد تساهم في إنتشال القطاع من وضعية النهب و السرقة إلى المساهمة الكبيرة في تمويل الميزانية.
( معا…ضد الفساد ) تضامنا مع فخامة رئيس الجمهورية.
د محمد الأمين شريف أحمد.