الرسالة الإعلامية ورهانات المؤسسية والمهنية!../ د.محمد ولد عابدين

نحتاج فى هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا المعاصر إلى التأسيس لخطاب إعلامي جامع ؛ قادر عل التعبير عن نبض المجتمع ، مساهم فى صناعة وتشكيل الوعي ، منسجم مع أهداف وأولويات التنمية البشرية ، مستجيب للرهانات المهنية والمؤسسية ، ويستدعى ذلك من الباحثين والأكاديميين وخبراء الاتصال، أن يساهموا إلى جانب الحكومات وصناع القرار وراسمي السياسات، في بلورة مقاربة تشاركية واعية، تسعى إلى جعل الإعلام بمختلف أجناسه ركيزة للممارسة الديمقراطية، ورافعة للتنمية من خلال رؤية إصلاحية جديدة للحقل، تنبثق من رحم مؤسسيه ومنتسبيه ، وتخلق جسرا للتواصل بين الأجيال الصحفية؛ سبيلا إلى التلاقي والتلاقح بين التجارب والخبرات، واستفادة اللاحق من السابق، ومشاركة الجميع في بناء صرح الثوابت والمشتركات الوطنية ، وتجذير خيار الحرية المقترنة بقيم الوعي والمهنية والمسؤولية.

وتنطلق وسائل الإعلام الناجحة، في توصيل خطابها وأداء رسالتها من رسم استراتيجيات رصينة، تحقق غاياتها وأهدافها، وتحدد جمهورها ومتابعيها، وترصد طواقمها البشرية ووسائلها اللوجستية، وتجندها لخدمة محتويات ومضامين المادة الإعلامية؛ استلهاما لثالوث العملية الاتصالية: (المنتج – الرسالة – المستقبل).

وقد أصبح التخصص في عصرنا الراهن، في جميع حقول المعرفة أمرا لا غنى عنه، وخصوصا في حقل الإعلام ؛ فهو جزء من متطلبات الإبداع والابتكار والجودة والإتقان، عكس التداخل غير المنهجي بين الوسائل الإعلامية، والنزعة الغريبة نحو الشمولية والموسوعية الموهومة، وما ينجم عنها من خلط للأدوار والتباس في الوظائف، وتشعب في الأنشطة وتشويش على الصلاحيات ؛ يؤدى في المحصلة إلى فشل ذريع في جميع المجالات.

ولا يعنى ذلك الانغلاق والتقوقع، في عصر التطورات المتلاحقة والمتسارعة في تكنلوجيا الاتصال والمعلومات، وما أفرزته من ثورة رقمية وتقنية واندماج بين الوسائط المتعددة.

إن وسائل الإعلام التقليدي مطالبة بالانفتاح على تقنيات “الإعلام الجديد” والاستفادة منها ؛ لتنويع وسائطها وتوصيل إنتاجها وتوسيع قاعدة متابعيها، غير أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب هوية المؤسسة نفسها، والرسالة الإعلامية الخاصة بها.

ولست ممن يحتفون كثيرا بالنقاش المحتدم حول ثنائية “القديم والجديد” وأيهما أجدى وأكثر تأثيرا وفعالية؟!..
إن المسألة من هذه الزاوية ذات بعد شكلي خالص، في الوقت الذي يتعين النظر إليها من حيث المضمون والمحتوى والعمق الدلالي؛ فالجدة أوالتقنية ليست مزية فى حد ذاتها، بل هي قالب ووعاء، والعبرة تكمن في الفكر الذي تحمله والأنساق المعرفية والسوسيولوجية التي تحدثها في المستقبل والمتلقي.

الإعلام الجديد أو وسائل التواصل الاجتماعي أو صحافة المواطن والهواة، وغير ذلك من المصطلحات والمسميات، أصبح لها حضورها القوي وتأثيرها السحري وانتشارها الواسع، فهي سليلة اندماج التقنية مع حاجات الاستخدام البشري المعاصر لعملية الاتصال، غير أنها لا تشكل بديلا لوسائل الإعلام التقليدي، والعلاقة بينهما علاقة تكامل وتفاعل، لا علاقة إقصاء وإلغاء..!

والإعلام التقليدي قادر على المحافظة على جمهوره؛ من خلال تعزيز هامش الحرية وتكريس قيم الحياد والاستقلالية، وتطوير كفاءات ومهارات العاملين فيه، واعتماد السرعة والفورية في نقل الأحداث وتغطيتها بتجرد ومهنية عالية..!

ولذلك يميل بعض خبراء علم الاتصال إلى التأسيس لمصطلح جديد هو “الإعلام التقليدي الجديد”.. فهو تقليدي في احترامه للرأي العام ومصداقيته ودقته في مصادر الأخبار، وجديد باستعماله للوسائط والحوامل الرقمية، وتبنيه للتفاعلية وحضور المتلقي في العملية الاتصالية.

ومع ذلك تبقى صناعة الإعلام المؤثر أكبر وأعمق مما يتصور البعض، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى محتوى إعلامي قوي وعميق ومؤثر، يدعم قضايانا السياسية الوطنية الكبرى، ويعضد مسيرتنا التنموية ، ويعزز لحمتنا الاجتماعية، بغض النظر عن الوعاء الذي يقدم فيه هذا المحتوى، فالمصداقية والمهنية والمؤسسية هي العوامل الأساسية في تحقيق فاعلية وقوة تأثير الرسالة الإعلامية.

ونظرا لتشعب الحقول الإعلامية وتنوع التخصصات والأجناس الصحفية ؛ المكتوبة والمسموعة والمرئية ؛ فسأقتصر فى هذا المقال على تقديم مقترحات وتوصيات ، أراها ضمانات وآليات أساسية لتطوير وتمهين ومأسسة مضمون الرسالة الإعلامية لمؤسسات الإنتاج السمعي- البصري من خلال :

– تصميم مساطر برامجية شاملة، مؤسسة على مرجعية إعلامية واضحة، واستراتيجة إنتاجية مدروسة، تراعي مختلف الحاجات الفكرية والسوسولوجية، وتستجيب لمتطلبات العصر وأولويات التنمية، وتتيح مشاركة جميع النخب الوطنية في حوارات مفتوحة وقادرة على مواكبة قيم الانفتاح والحرية.

– تحديد خط تحريري له ثوابته ومرتكزاته التي لا تقيدها إلا ضوابط المهنية وأدبيات وأخلاقيات العمل الصحفي مع وجوب تحصين وحماية هذا الخط التحريري من كل المؤثرات والإكراهات الخارجية.

– تجذير وترسيخ ثقافة الحرية وما يرتبط بها من قيم الوعي والمسؤولية والمهنية.

– تكريس مبدأ استقلال الصحفيين وإعلان ولائهم للجمهور وللمجتمع باعتبارهم قائمين على تأدية خدمة إعلامية عمومية.

– انتهاج مقاربة إعلامية تسعى إلى تطوير الإنتاج من خلال تسخير كل الطاقات البشرية، والموارد المالية واللوجستية لخدمة الإنتاج بوصفه الهدف والغاية من العملية برمتها.

– استقطاب الكفاءات الإعلامية والأكاديمية، بغية الاستفادة من عطائها العلمي وقدراتها المهنية لخلق جو من الإبداع والابتكار والتجديد الذي يشكل وقود العمل الصحفي.

– إشراك الصحفيين في مراكز القرار، من أجل تجاوز عهود القطيعة بين البنية الإدارية والبنية الإنتاجية، حتى تصبح العملية الإنتاجية ذات طبيعة أفقية تشاركية.

– تكثيف التكوين بشكل منتظم ومطرد لتمكين الصحفيين والفنيين من المتابعة والإطلاع على آخر التقنيات والمستجدات في مجال اختصاصهم.

– إعداد قاعدة بيانات واسعة، تشمل الباحثين والأكاديميين والخبراء والمتخصصين من مختلف مكونات النخبة السياسية والعلمية والمجتمع المدني وقادة الرأي ورجال الفكر والثقافة والأدب.

– تفعيل دائرة التغطية الإخبارية لتشمل التحليل والتأمل والقراءات المهنية الفاحصة لما وراء الأحداث والمستجدات في كل الأبعاد، من خلال وضع آلية جديدة للتغطية، تشرك الفاعلين والخبراء والمواطنين، والابتعاد عن القوالب الجامدة واللغة الخشبية والسرد لبروتوكولي للأحداث.

– وضع تصور جديد وآلية مهنية لإدارة البرامج الحوارية، تضمن التوازن والمهنية والجرأة في تناول المواضيع واختيار الضيوف، وزوايا المعالجة دون محاذير أو تابوهات أو قيود وهمية.

– تشجيع التخصص الإعلامي، وتنويع المحتويات والمضامين؛ استجابة للحاجات العلمية والثقافية والتنموية والترفيهية لجمهور المتلقين.

– الابتعاد عن لوثة التداخل غير المنهجي بين الحقول الإعلامية، والنأي عن المنزع الغريب نحو الشمولية والموسوعية الموهومة، لما ينجم عنها من خلط للأدوار والتباس فى الوظائف وتشويش على الصلاحيات.

– تجسيد إعلام القرب، من خلال إشراك المواطنين بمختلف مستوياتهم فى إنتاج مضمون الرسالة الإعلامية؛ تكريسا للعلاقة التفاعلية بين المواطن والدولة، وتعبيرا عن حاجاته المادية والمعنوية.

– توظيف كافة الأجناس الصحفية في مجال التغطيات الإخبارية والبرامج الحوارية، لضمان توسيع الدائرة الديموغرافية والخريطة الجغرافية للجمهور المستفيد من الخدمة الإعلامية العمومية، وخصوصا في الأرياف والمناطق النائية.

وإذا توفرت هذه الضمانات والآليات ، فستشكل مدخلا هاما نحو إرساء إعلام مؤسسي تعددي ومهني يجسد روح الانفتاح ومضمون الخدمة العمومية ، ويعمل على كسب رهانات الحرية والتعددية ، خدمة للأهداف التنموية ، ليصبح فضاء حرا للتلاقي بين الفاعلين السياسيين والمجتمعيين والخبراء والمواطنين حول مشاغل واهتمام الشأن الوطني العام.

وبذلك يحدث هذا الإعلام المنشود قطيعة مع عهود الجمود والركود ، ويؤسس لثقافة الانفتاح والمهنية والموضوعية والجرأة في الطرح حتى لا يظل رهين المحبسين ؛ محبس الوصاية الرسمية ومحبس المصادرة الذاتية.

وهو حينها إنما يعبر عن التنوع الثقافي لمجتمعنا الذي يتمتع بخصوصية سوسيولوجية فريدة ، انبثقت من رحم التلاقي بين ثراء البعد الإفريقي والعمق العربي الإسلامي.

وتلك خطوة واثقة على درب لعب الدور المحوري للإعلام في تشكيل الوعي المجتمعي وصناعة الرأي العام.. وخلق التفكير الاستراتيجي الأصيل والتخطيط الاستشرافي الرصين .. وإنتاج الأفكار والرؤى والمقاربات السياسية والفكرية والسوسيولوجية والتنموية.

د. محمد ولد عابدين.
أستاذ جامعي وكاتب صحفي

Exit mobile version