تأبين
” إخليكلي”، تلك العبارة التى انسحبت من القاموس اللغوي ، لتحفر لنفسها مستقرا دائما في قاموسي الوجداني ، بل وأبعد من ذلك أصبحت السيد والموجه الأول “للأنا الذاتية”، تطيعها شعورا ولاشعورا، عن قصد وعن غير قصد ، فما سر هذه الكلمة ؟
إنها العصا السحرية التي كان والدي رحمه الله يلقيها باتجاه ضميري لتطرد ما بداخله من أفعال وأفكار صبيانية واضعة محلها شحنتها المملوءة أخلاقا ومروءة وتجربة رائدة مليئة بحب الخير لكل مؤمن،عاطفة على كل ضعيف ومحتاج، قوية فى وجه كل جبار مستكبر ، مؤمنة بالله حق الإيمان ، فكانت بذلك سريعة الغضب سريعة الرضا ، تلك العبارة في بعض الأحيان وعندما تخرج من بين شفتيه الطاهرتين تشكل مصدر حرج لي ومصدرا للعطف المضاد (من الإبن إلى الأب) لما تحمله من قلق وتخوف على سلامتي وهو ما دفعني في أحايين كثيرة إلى إخفاء بعض أسفاري الداخلية عنه عطفا عليه من تأثيرات العطف المفرض اتجاهى والخوف على سلامتى .
ومن الغريب أن هذه العاطفة الصادقة ظلت مدللة تعاملنى كما لوكنت دائما ذاك الطفل الوديع الجاثم بين أحضان والده وحتى وبعد أن بلغت أشدي لله الحمد (لله الحمد) وتحملت المسؤوليات الجسام التى كان هو رحمه الله يتحملها ،فكان بذلك حلمي الأوحد أن أنال رضاه وأن أظل مصدر فخر واعتزاز له ، وكان هو في المقابل يقنعني أن كل ماتحقف من كان بفضل جهودي.
أبي الغالي،
أعرف أنك رحلت عني إلى دار الخلد والنعيم ،لكنني في المقابل أعرف بجزم أنك لم ولن ترحل مني مادام بي رمق حياة ، فسأبقي ذلك الطفل المحتاج لوالده في أفراحه واتراحه كما كنت دائما ، ومن الأمثلة التى لايمكن أن تبرح ذاكرتي هو عدم سعادتي بنجاحي في الباكلوريا لا لشيء سوى أنك لم تكن بجانبي تلك اللحظة حتى تشاركني الفرحة.
أبي الغالي ،
كم كنت أشعر بمزيج من العجز والغضب فى آن واحد عندما أرى مشاكل العمل تتكالب عليك وأجدني عاجزا عن إخراجك منها ، خاصة عندما تقابلي بعبارتك الخالدة المغلفة بالثقة بالنفس والشعور بالقوة (أوحل أفشقلتك وخليلنى أن انعدل ذ)
أبى الغالي،
كم أنا أتذكر ذلك اليوم الذى استحكم فيك المرض وحاولت مساعدتك للوصول إلى الحمام فلم تستطع حتى الجلوس فقلت لى قولتك الشهيرة ” يولى الدنيا ما هى ش ” بماتحمله من دلالات التوحيد والتسليم بفضاء الله وقدره، حينها ذرفت دموعي غلبة لاخوفا عليك لاخوفا عليك لشدة ثقتي فى الله ،ولكن لشعوري بالضعف والعجز عن مواساة من كان سندي ومصدر اعتزازي ، إلا أنه ورغم ألمك ومرضك فى بدنك فإن عاطفتك اتجاهنا ظلت سليمة قوية المناعة ، فلكم أخفيت عنا الألم رغم حدة وطأته وتظاهرت بالقوة والتعافى حتى لاتقلقنا ، فكنت بذلك تتجرع الألم – كما كنت دائما – من أجلنا.
أبي الغالي،
لقد اطلعنا ماكنت طيلة حياتك تخفيه عنا ، بل وتخفيه يمينك عن شمالك ، فقد ناحت عليك المساجد وأفرشتها ، والمحاظر ومؤنها، والأرامل وحاجياتها ، وهو مازاد من اطنئناننا عليك ، فأنت بين يدي رب غفور رحيم نسأله أن يتقبل منك صالح الأعمال وأن يتقبلك ممن قال الصادق المصدوق ” سبعة يظلهم الله بظله يوم لاظل إلا ظله ” وذكر منهم ” رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم يمينه ماتخفيه شماله”
أبي الغالي،
رغم صعوبة سلك مسالكك فى البر والإحسان ،فإننا لن نألو جهدا فى ذلك راجين من المولى جل جلاله الهداية والتوفيق.
أبي الغالي،
رغم جلل المصاب ،وجسامة المسؤولية وثقل الحمل، فإنني سأتجرع ألم المصيبة بصبر وثبات وسأقتنع – رغما عنى – بأنني “كبرت” حتى أتأقلم مع غياب نصائحك المتبصرة وإرشاداتك المستنيرة وسأحاول – من دون كل ولاتقصير- أن أحمل مشعل العزة والوفاء والكرم الذى لم يسقط من يدك حتى سلمته لنا فجر يوم السبت الموافق للثامن من مايو 2021.
أبي الغالي،
هذه الكلمات عجز لساني عن قولها ، وجف حبر قلمي عن كتابتها ،فناحت بها عاطفتي ، وصاحت بها مشاعري وقلبي قولا، وفاض بها حبرهما كتابة وتدوينا،
أبي الغالي،
عزائي فيك أنك حللت ضيفا على أكرم الأكرمين ، وأرحم الراحمين ، فأسأله جلت قدرته وعلا شأنه أن يرحمك بقدر حزني فراقك ،وأن يجازيك بالخير خيرا ، وبالأحسان إحسانا ،وبالذنب مغفرة ورضوانا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله على مانقول وكيل