لم يكن للعلامة العربي المتصوف أبي حيان التوحيدي بدٌ من حرق كتبه، بعد أن أصابه العوز وعانى من شظف العيش، وهو الأديب والفيلسوف، الخطيب الفصيح،يوم ذهب يسأل المعونة من “الصاحب بن عبّاد” الوزير في الدولة “البويهية”، ومن الوزير العباسي “الحسن بن محمد بن عبد الله بن هارون”
-والسؤال ثمن لكل نوال –
عاد خائب الرجاء ناقماً على عصره، فقال : “الغريب الحق ليس الذي نأى عن وطن بُني من ماء وطين وفقد أهله وأحباءه، إنما الغريب هو ذلك الإنسان الذي يعيش في وطنه غريبا”.
لم يكن ابن زريق البغدادي بأفضل حالا من أبي حيان إلا أنه قرر السياحة في بلاد الله الواسعة ، خوفًا من الوقوف بباب لئيم ، ثم يرده كما حدث مع أبي حيان .
يصور لنا ابن زريق معاناته في يتيمته الرائعة حين يقول :
لاتعذليه فإن العذل يولعه ** قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه**
جاوزت في لومه حدًا أضرّ به ** من حيث قدّرت أن اللوم ينفعه**
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً ** من عذله فهو مضنى القلب موجعه**
قد كان مضطلعاً بالخطب يحمله ** فضيقت بخطوب الدهر أضلعه**
يكفيه من لوعة التشتيت أن له ** من النوى كل يوم ما يروّعه.**
لم تكن زوجة ابن زريق تبتغي في لومه غير ملازمته ومعيته ، لكن طموح الرجل لحياة كريمة كان يحول دون بقائه في وطنه حاله حال الكثيرين من أبناء هذا الوطن الذين قذفت بهم صروف النوى من حيث لم يكونوا يظنون، وأضحى التنائي واقعا لامفر منه وكأنهم ينشدون قوله :
كأنما هو في حل ومرتحل
موكل بقضاء الله يذرعه **
ولنا أن نتساءل أيهما أخطر على الإنسان ، أن يغترب عن وطنه،أو يغترب في وطنه !!
إن حالة التيه والضياع لدى المواطن الموريتاني مرشحة للتفاقم مادامت مبررات الفساد قائمة في الخطاب الإجتماعي والديني والسياسي، وستظل عوامل الاغتراب عديدة وشائكة إن لم تبادر السلطات الحاكمة إلى تحسين شامل للأوضاع الراهنة .
إن مفهوم الاغتراب تتسع ضفافه لتشمل كلاً من الاغتراب السياسي والإقتصادي والثقافي والديني والإجتماعي والحقوقي والتربوي والإيديولوجي والقيمي، إضافة إلى اغتراب ينتج عن التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال ، واغتراب تفرضه متغيرات على أنماط الحياة المعتادة، وجميعها تسبب الشعور بالعجز والإحباط لدى الإنسان، وتفصله عن مجتمعه وتدفعه إلى: (….).
يرى الفيلسوف وعالم النفس الألماني “إريك فروم” صاحب كتاب “الهروب من الحرية” أن غربةالإنسان عن نفسه نتيجة النزعة الإستهلاكية التي تفرضها المجتمعات الصناعية المتطورة التي قفزت فيها الحداثة حيث أصبح الإنسان عبداً لما ينتجه، بدلاً أن يكون المنتَج في خدمة الإنسان، وهو ما أدى إلى أن يصبح الإنسان أكثر شكاً وقلقاً وعزلة وخوفاً في مجتمع لم يعد مهتما ببناء علاقات إنسانية طبيعية وسليمة بين أفراده.
وحين يكون إنتاج الماكنة السياسية الموريتانية 🙁 …………….)فكيف يكون المنتَج في خدمة المواطن !!
إن الإحساس بالهوية ينتج تكاملية لدى الفرد، ويعزز قدرته على التوفيق بين المتناقضات،كما يمنحه إمكانية التماثل للتواصل والاستمرار. ولأنها في جوانبها تعكس علاقة المواطن بواقعه، فإننا في الغالب لانرى في أنفسنا هوية نصبوا إليها ولا نرى في واقعنا سوى مرآة متكسّرة لا تستطيع أن تعكس الصورة الكاملة.
ويعود ذلك إلى عدم الثقة بالذات نتيجة الكم الهائل من : الإقصاء والتغييب والاضطهاد والقهر …. الذي تتعرض له “الأنا” الفردية والجمعية، حيث أصبح الكثيرون يعتبرون أنه لامستقبل لهم في هذه الدولة التي يعيشون فيها، وهو ما جعلهم يتخلون عن القيم المجتمعية المتعددة حتى بلغ بهم الأمر إلى “تمييع الهوية”.
قليل منا من تمكن من رسم ملامح إيجابية لهويته، لكنه تاه بفعل الضغط الذي تولده الظروف المحيطة بمعيشته وتناقضاتها. بينما اختار البعض لنفسه هوية سلبية، فانعزل عن مجتمعه وانكفأ على ذاته،أو لجأ إلى ممارسات دخيلة على قناعاته قصد الدفاع عن ذاته الداخلية وحمايتها من السقوط والهزيمة.
حين يجد المواطن نفسه مطحوناً وسط حلقة مغلقة من التجاذبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يعيش في مجتمع يعاني من نكوص فاضح في الخدمات العامة، وشيوع الفساد الإداري والرشوة والمحسوبية، واستفحالٍ لظاهرة البيروقراطية الإدارية والروتين في كافة مفاصل الدولة والمجتمع.
في مناخ لم يعد كافيًا فيه رفض الآخر وعدم الاستماع له، بل أصبح البعض يتبنى ثقافة الإقصاء والإلغاء كلياً وفعلياً.
حوّل “كارل ماركس” مفهوم الاغتراب من ظاهرة فلسفية إلى فعل تاريخي، حيث يعتبر أن الوجه الآخر للاغتراب يؤدي إلى صراع طبقي ثم ثورة وتغيير.
مابين فصول التعريف والتنظير والواقع يعيش الموريتاني على أمل أن يدرك نظامه الحالي أن لكل صورة حقيقة ولكل شعار أدوات ، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ، وأن لاقلة مع التدبير ولا كثرة مع التبذير ، وان الفساد بَيَٓن والإصلاح بَيَٓن، ولكل رئيس حمى.
فهل يدرك النظام الحالي مالم يدركه أسلافه وما عبر عنه ابن زريق البغدادي في رائعته وما لو فهمه عزيز لظل عزيزا :
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ
وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا
شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ.
وأن يسعى إلى لملمة شتات هذا المجتمع وتوطين القيم النبيلة المهجورة عسى أن تورق أغصان الفضائل وتؤوب الطيور المهاجرة إلى أوكارها
فبادروها وفي أغصانها رمق “” فلن يعود اخضرار العود إن يَبُسا