مشاهد في اروقة المحاكم ودور الاعتقال مع المغفور له محمد يحظيه ولد ابريد الليل

تخلل الحكم العسكري – بوجهيه العسكري المحض والمزدوج بين العسكري والمدني – الكثير من المحاكمات السياسية التي طالت جل الطيف السياسي الموريتاني لكن لم يتعرض تيار ما ولا زعيم يقود ذلك التيار لما تعرض له المرحوم محمد يحظيه ولد ابريد الليل هو وصحبه من المنتمين او المنسوبين الي الفكر البعثي خصوصا ان نحن اخذنا في الاعتبار الفترة الممتدة من العاشر يوليو١٩٧٨ حتي تاريخ الاطاحة بنظام السيد الرئيس معاوي ولد سيد احمد ولد الطايع سنة ٥..٢ ، من جهة واساليب لاستجواب وعدد المحاكمات وتلاحقها ، من جهة اخري .
لن اتدخل في تفاصيل الاتهام الذي وجه اكثر من مرة الي المرحوم ورفاقه فالكل يعرف كيف تعد محاكمات الراي التي يمكن ان تختزل في ادلة تنتزع بالتعذيب والاكراه انصياعا لهوي او لاوامر صادرة عن مستبد- ليس بالضرورة مستنيرا- وتقدم الي قاض لا يملك ادني حد من الاستقلال في حكمه ولا هو يطمح لذلك ثم تعقد جلسات حكم كثيرا ما تكون في ثكنة شديدة الحراسة ، او في محكمة حولت الي ثكنة علي ان يكون ذلك بحضور محامين في موقف لا يحسدون عليه : ان تغيبوا يفوتون علي الراي العام الوطني وعلي ذوي المتهمين فرصة الوقوف علي ظروف المعتقلين ومدهم بنصيب من العطف وتزويدهم باخبار الاهل والوقوف ما جري داخل الاروقة وثكنات الجيش من تلاعب بالقانون وظلم وحيف والشهادة عليه محليا ودوليا وا ن هم حضروا كان عليهم نصيب لا يستهان به من الوزر لما اعطوا تزكية لهذه المحاكمات الصورية من خلال ذكر اسمائهم كهيئة دفاع عن المتهمين ليصبح بذا الظلم والباطل حقا .
علي كل حال لم توجه للمرحوم في يوم من الايام تهمة تتعلق باختلاس العام او بالفساد ولم يذكر عنه امام هذه المنابر اعتداء علي مستضعف وحتي علي قوي ولم يتجرأ وكيل نيابة فيتهمه بما هو مخل بالشرف .
كان المرحوم يمثل امام هذه المحاكم وهو يرتدي ثوبا من عزة النفس والإباء والاناةً وحتي الاناقة ، لا يدخل في مشادة مع ممثل النيابة ولا يستهويه جدل مع قاض عسكري كان او مدني ، ينحت من قاموسه السياسي الغني ببطء مقصود او متعود ما يبلغ به حجته او يقيم به الحجة علي خصمه دون تجريح او تنكر لما هو بديهي او لما يراه من راي حول تسيير شؤون بلده وحكامته ومصيره . لم يتطرق قط اثناء هذه الجلسات لما لا صلة له مباشرةًبموريتانيا رغم انتمائه الواضح لتيار سياسي يري ان الهم العربي مشترك ويري، خطأ او صوابا، ان موريتانيا جزء من كل في معاناته ومسراته !
خلال محاكمتها في اواخر سنة ١٩٨٣، وكنت حينها محام في بداية التدريب، تبني احد رفاقه في النضال من الصف الامامي خط دفاع خاص به حيث ارتأي ان يركز علي وجود مسافة عقدية تحول بينه وبين اعتناق ادبيات حزب البعث عموما ونظرته للوجود وبالتالي يكون بالضرورة هو من غير المعنيين بالملف القضائي وتتعين براءته ولما سئل المرحوم عن ذلك في مواجهة امام المحكمة ، رد بهدوء ولطف شديدين ” فلان ادري برايه من غيره الا انني كنت اظنه محسوبا علينا “.
و عند صدور الحكم عليه بالاعمال الشاقة لمدة احدي عشر سنة( سيستفيد من العفو سنة ١٩٨٥ بعد وصول السيد الرئيس معاوي للحكم ) بينما حكم علي رفيقه وصديقه الحميم دفال ولد الشين بالسجن خمس سنوات مع وقف التنفيذ- وهو تمييز يضيق المقام عن التعرض لها – ، احتج دفال بقوة وصدق وقال امام الملأ” هذا ظلم بواح ! محمد يحظيه لم يفعل الا ما فعلتهً انا معه ، يجب ان نتساوي في العقوبة ” رد هو عليه بطمأنينة ” هذا لا يهم يا دفال ، موريتانيا سجن علينا جميعا اين ما كنا ، سواء من هو منا في الاعمال الشاقة او من هو محكوم عليه بوقف تنفيذ ” .

في مقام آخر ، زرته بعد ذلك صحبة المغفور له غالي ولد عبد الحميد رئيس الرابطة الموريتانية لحقوق الانسان وهو اي محمد يحظيه قيد الاعتقال في ثكنة اجريدة مع بعض رفاقه للمرة الثانية فسالته هل تعرض لاكراه ما في اشارةً واضحة الي التعذيب فرد قائلا : أليس الاكراه يا استاذ سوي جزء من المسطرة ؟ فرفض بذا ان يذكر تفاصيل ما تعرض له شخصيا حفاظا علي وقاره وحتي لا يعطي قيمة لجلاديه بذكر افعالهم الدنيئة محملا في نفس الوقت المسؤولية لنظام الحكم ككل .
وفي محطة ثالثة قدم امام محكمة نواكشوط المدنية لتهم سياسة كالمعتاد وذلكً بعد ان اصبحت المحاكم العسكرية ممجوجة لدي الجميع ، فارغة من المصداقية يبحث لها عن بديل ؛ فاذا بقامتين اثنتين من قامات الادب الموريتاني يحاولان بشتي الوسائل الدخول الي قاعة المحكمة دعما للمرحوم محمد يحظيه وتعاطفا معه و هما المغفور لهما عملاق الفن الموريتاني المختار ولد الميداح والاستاذ محمد ن ولد سيد ابراهيم . تاملت المشهد فقدرت لهما شهامتهاونائلهما ووفائهما لشخص يري فيه النظام الحاكم خصمه اللدود بينما قدرت له هو بعد نظره وسعةصدره وارتباطه بالواقع مما مكنه من ان يجمع بين اعتناق فكر يتصف بالحداثة الشديدة والانشغال بهموم العرب عموما ومستجدات شؤونهم وبالتالي بما هو خارج حدود بلدنا وبين العمل علي نسج علاقة وطيدة مع رجلين يمثلان ، كل في ما يعنيه ، وجها تقليديا بارزا راسخا في بلادنا .
واخيرا اجتمعت به هو و صديقه دفال وهما نزيلي سجن بيله بلكصر صبيحة اعتقال الامريكيين للمرحوم صدام حسين . كان يري – هو وصاحبه في السجن- الحادث، مع مافيه من رمزية لهوان العرب وضعفهم ، مجرد يوم من ايام حرب طويلة المدي لا هوادة فيها ، حرب سجال سيكون النصر فيها لفريقهما وان طالت المعركة .
اما انا فبقيت منشغلا باعداد ملف القضية التي يمثل فيها محمد يحظيه ولد ابريد الليل للمرة الرابعة امام
المحكمة بتهمة تتعلق برايه السياسي ومعتقده الفكري .

الاستاذ المحامي يرب ولد احمد صالح

Exit mobile version