ذكريات.. مصطفى بدر الدين (5)

رغم أنه لم تكن بحوزتنا ممنوعات، ولم نرتكب سوءً من شأنه أن يضُر أحدا، ربما طيلة حياتنا آنذاك، إلّا أننا بقينا مُطارَدين. تُعاب علينا أفكارُنا. ولسنا مسؤولين عنها. إنها تسللت إلى أذهاننا، دون أن نعرف متى ولماذا، ولكن بالتاكيد لتُعذِبنا. لقد فرضتْ نفسها علينا، دون أن نختارها. هذه هي الحقيقة. وإذا، كان لا بدّ من تحديد مسؤول فهو الوضع الفاسد الذي لا يترك للإنسان الحساس مرونة ولذة اللامبالاة.
والحقيقة أيضا، هي أن الدولة الظالمة وبدون وازع أخلاقي، تحتاج دائما لكبش فداء تنعته بأنه هو مانع سير ونجاح “المسيرة المُظفّرة” التي تريد أن تضع الشعب في جنّةٍ غنّاء، وأنه مسؤول عن جميع الأخطاء، بل عن الخطيئة الأزلية. محمد المصطفى، كان أحد هؤلاء أكباش الفداء الدائمين، مهما كانت السلطة السياسية الحاكمة. وما أشبه تصوراتها وتصرفاتها ومواقفها، وعُقَدها!
يُسمع أحيانا كلامٌ عن العدالة، وهذا يُضحك سرّا جميع أكباش الفداء. ليست هناك عدالة، ولن تكون هناك عدالة، ما دام يعيش كبش فداء واحد أو يُخلقُ كبش فداء جديد.
بدون عدالة رجعية، بدون تبرئة وغفران من طرف أكباش الفداء، دون الإعتراف بالظلم الماضي، سيبقى الكلام عن العدالة هو إمَا مُضحك وإما وقِح. ماذا سنفعل بالسنوات الطويلة في السجون والمُعتقلات بدون سبب؟ والتجويع المقصود كعقاب؟ وحتى التعطيش داخل زنزانات غير صحية، وموصدة لمدة أربعة وعشرين ساعة متوالية أحيانا؟ ما مصير التعذيب؟ وهل كان فقط حظ هؤلاء؟ ماذا يجب أن يُفعل بالعجز الناتج عن الإحتجاز الطويل والمتكرر؟ والتشويه الجسدي والعقلي، وعن الأمراض الناتجة عن ذلك وتأثيراتها المستمرة على مدى الحياة؟ الكلام عن العدالة من طرف من لم يتعرّض للظلم هو كلام إما غير محتشم وإما تافه، تماما مثل من وُلد أعمى وهو يُجادل في موضوع الألوان.
لا أحد مُطلعا يعتبر أن محمد المصطفى قد مات موتا طبيعيا. لقد مات نتيجة لسوء المُعاملة، والحرمان من معيشة لائقة، بل وحتى من الماء النقي، في المعتقلات والقرى البائسة، على مدى سنوات طويلة. لقد أصبح بإمكاننا أن نقول هذا، لأن الرجل لم يعُد موجودا.. إنه مجرد واجب، مجرد تضامن..
أثناء رحلة هروبنا، كنّا نتقدم نحو القرية السنغالية الصغيرة. وكنتُ أسرع في خطواتي لأزيد المسافة بيني وبين “المُريدَيْن” حتى أُظهر أهميتي وتميُّزي عنهما، ولكن من دون أن أُخِلّ بالسير المهيب المناسب للمَقام الرفيع المتفق عليه في السيناريو، وهو مَقام “حيدرا”.
كُنّا على بعد عشرات الأمتار، عندما قام رجل- في ما يبدو هو صاحب المكان- ونفضَ حصيرا كبيرا منسوجا من القصب النهري، لإزالة الغُبار عنه، ومدّده في ظل شجرة كبيرة ظليلة، قد تكون شجرة المُماحكة والنقاش، وتوجه إلينا مُهرولا، ومدّ يديْه إليّ أنا بشكل خاص، وهو يكرر عبارة “حيدرا.. حيدرا” مُرحّبًا بنا.
نجحت المكيدة.. أشار علينا الرجل بالتوجه إلى الحصير، وسارع ليضع أمامي شخصيا مفرشا ناعما من جلد الضأن “إيليويش” وهو رمز التقدير والتشريف. أما مُرافِقايَ فقد كانا يُبالغان بجدية في إبداء علامات التقدير والإحترام اتجاه “شريفهما”.
كنت أُحاول إخفاء إبتساماتي التي لم تكن بسبب السرور ولا البلاهة الساذجة، وإنما بسبب الكوميديا التي كنّا نؤديها جميعا بكل إتقان.
كُنا مُفعمين، فقد نجحت مُناورتنا تماما. وفي الوقت الذي كُنّا نتناول الشاي، كان مُضيفنا قد ذبح ديكا. كنّا لم نتناول بعدُ طعام الغداء، مع أن الساعة كانت في حدود السادسة مساء.
بعد الغسق بقليل، قُدّم لنا طعام العشاء. طاسة فيها دجاجة كاملة، مطبوخة وناضجة، وهي مغمورة بمرق وافر، خفيف الكثافة. إلَا أن مُضيفنا قد غمرنا من جديد، بجميل إحسانه، مُضيفا إلى المرق الساخن، كميّةً من بسكويت “سرْقلّه”. وصارت البسكويت عبارة عن حلوى تذوب في الفم. لم يرُق لي شخصيا طعم السكر في البسكويت مع اللحم، وقد أكون تناولت نصف الدجاجة لوحدي. توقفت عن الأكل قبل أصدقائي مُعطيا الإنطباع بالإعتدال في المأكل. فالناس المُهمُّون، يلزمهم تمالك النفس في الأكل.
بعد الأكل، أخذ موسى فال، باللطف المعهود له، مضيفَنا القروي على انفراد، ووضع في يده مبلغا من المال، يُغطّي بسعة ما تكلفه في ضيافتنا، مع أننا كنا شبه معدمين كفئران المسجد. وفي اندفاع مسرحي جديد في التمثيلية التي نُؤديها، أردف قائلا له، إنها هِبَةٌ من “حيدرا” وبحذق، أشار إليه، وكأنها مسألة ثانوية، بينما هي كانت الأساس، أننا نريد عبور الممر المائي في هذه الليلة، وأن “حيدرا” سيمنح شيئا جديدا مقابل المساعدة في ذلك. كان صاحب الزورق يتوقع ما نقصده، وارتاح جدا لأنه سيحصل على مكافأة جديدة مقابل العبور.
كُنا في غاية الإرتياح لأننا أعتُبرنا على غير ما هو حقيقَتُنا، وأنّ هذا المُعدي قد يعتبرنا أُناسا يحملون مواد أو أدوات ممنوعة مثل المخدرات أو العملة المزورة، أو أسلحة وذخائر، ربما جئنا بها من غامبيا المُجاورة.
كان مرادنا حينها، هو أن نُعتَبَر مجرمي قانون عام، أو لصوصاً، فالمهم هو أن لا يُظن بأي حال من الأحوال، بأننا سياسيّون. إنها المفارقة! في بعض الحالات، يكون الإنسان مُرغماً على أن يبتعد عن طبيعة الإنسان السويّ، لكي يتقمص بشغف أو يتظاهر بحالة نذل.
الدولة الظالمة أو الغبية-التاثير هو نفسه- إذا لم تدفع الناس إلى أن يكونوا مجرمين، فإنها قد تتسامح مع الإجرام، ولكنها لا تقبل تحت أي طائل، فكرة تهدف إلى المصلحة العامة، إذا كانت خارجة عنها.
عندما تمكّن الحاج أمين الحسيني، مُفتي القدس الكبير، من التخلص من السلطة الإنجليزية في فلسطين التي كانت تحت الحماية، ومن مخالب المنظمات الصهيونية، ووصل عام 1939، في طريقه إلى بغداد، إلى أبواب تدمُرْ، العاصمة القديمة لمملكة “زنُّوبيا” وقبلها “ملشيور” الذي جاء عند مولد يسوع، حسب الحكاية المسيحية، بالذهب في الوقت الذي جاء الملك الكلداني بالصِّبر “أم الناس”، وجاء ملك مرووي بالبخور؛ في تلك الليلة، كانت الحامية الفرنسية- لأن سوريا هي الأخرى كانت تحت الحماية – على الحدود، لا تضم إلّا العرب. سأل ضابط الصف السوري المُفتي الذي كان مُتنكرا، عن مهنته، فأجابه: “بائع غنم”، فارتاب ضابط الصف، وأعطى الأمر للمفتي بأن ينتظر حتى الصباح، ليتم تقديمه إلى الضابط الفرنسي في المدينة.
لم يكن المفتي يخشى احتمالا أسوأ من هذا. وفي هذا المأزق، أخذ المُفتي ضابط الصف على حدة، وعرض عليه مبلغا محترما من المال لكي يعفيه من مقابلة الفرنسيين. رفض ضابط الصف العرض، واستاء من محاولة الرشوة التي تعرض لها. أصبح المُفتي في ورطة تامة. وأمام وضع كهذا، قرر المُفتي أن يُقامر بكل شيء، وأن يُراهن على الكبرياء والأخوة العربية- وهي أشياء عنده منها رصيد وافر- وقال للسوري: “إسمع.. أنا الحاج أمين الحسيني، مُفتي القدس، وأنا مُسافر إلى بغداد”. تأمّله ضابط الصف مَلِيّا على ضوء شمعة، وفي النهاية، قال له مُنهارا: “يا صاحب السماحة، بإمكانكم أن تتابعوا رحلتكم، أتمنى لكم التوفيق”. ولكن، في ذلك الوقت، كان العرب لم يفقدوا بعدُ جوهر قيّمهم المعنوية.
في ظلام الليل، وبعد تناول الشاي المعهود بعد العشاء، حمَلنا أمتعتنا، يُساعدنا صاحب الزورق، محمد المصطفى، وموسى وأنا، وانحدرنا من التّل المشرف على جرف النهر لنصِل إلى الزورق، ونحن نتّبِع صمت الموتى ونتحرك كالأشباح.
كانت عوامل صمت الليل العميق، والحركات المحسوبة والمتأنية لصاحب الزورق، وهدوء الماء، قد نشرت العدوى بيننا، فصِرْنا نُهدِّئ حتى من تنفُّسنا، وكأن بإمكانه أن يُسمَعَ من طرف مُخبرٍ قد يكون مُختبئا خلف شجرة في الجوار.
وعندما صرنا على الضفة الأخرى للنهر، أسرَعْنا بأخذ أمتعتنا من الزورق، وكأننا نخشى أن يعود دون أن نتمكّن من النزول منه.
لم نكن نرغب في سؤال صاحب الزورق عن أيّ معلَمة على طريقنا، أو عن طبيعة المنطقة التي تنتظرنا، مخافة أن يضطر لإعطاء معلومات لمُلاحقين محتملين. وعلاوة على ذلك، لا نريد بأي ثمن أن نعطي الإنطباع بأننا غرباء على المنطقة أو المهنة التي قد نُتّهم بها. الغريب والبريئ الطيب هما مُحتقران دائماً.
كان قدَرُنا في تلك الليلة، أن نسبح في الظلام والمجهول. ويبدو أننا قد توغلنا في مستنقع أو منطقة أغوار أو حقول أرز.. كان الماء والوحل يصلان إلى مفاصل الركبة، وكُنا مُهدّدين في كل مرة بفقدان التوازن. وفي أكثر من مرة، سقطت أمتعتنا في الماء والطين.
وبعد خروجنا من المستنقع، وصلنا إلى أرض يابسة ولكنها كثيرة العثرات، وكأنها مُجرّفةُ بآلة من غير مِقْوَد. ومن جديد، صارت أمتعتنا المحمولة على الرؤوس، تُفلت من أيدينا مع كل مهبط عنيف، وكل طلعة حادة في الظلام، وتتدحرج على الأرض.
ورغم كل تلك العقبات، فلم تُغادر روح المرح والدعابة رفيقيّ الإثنين، تُدعّمهما معنويات مرتفعة بشكل غريب، لا يصدق.
وفي وقت متأخر من الليل، لا يتحرك فيه إلا من تستنهضه مشكلة مُلحّة، وصلنا في النهاية، إلى مقربة من الطريق الرئيسي، حيث كنا ننوي أخذ سيارة أجرة في الصباح الباكر عند الساعة السادسة.
أما في بقية سواد تلك الليلة، فقد بقينا مستلقين على الأرض الطينية دون فراش غير “دراريعنا”. ولكنّ ذلك لم يكن مزعجًا، لأن نظافة “دراريعنا” كُنّا قد ضحينا بها منذ مدة على مذبح السّريّة، لكي نظهر على أننا من أصحاب الحوانيت “البيظان” في حي “گيدّاوايْ”. وبشكل عام، فقد قمَعنا بذخَ التّزيُّن والنظافة، والتزمنا بكل ما من شأنه أن يُعيننا على الإبتعاد عن مظان الإشتباه.
أتذكر في أحد الأيام، أنه أثار انتباهي عنوان جريدة معروضة خارج كشك صحف، وأردت أن أشتريها، ولكن محمد المصطفى، الذي كان دائما متيقظا وراجح الرأي، نبّهني مُحذرًا: “عليك أن لا تنسى بأن “بيظان” السينغال لا يشترون الصحف”.
طبعا، تخليت فورا عن هذا التميز الذي قد يشكل خطرا. مع أن أساس تسليتنا في السنغال، كانت المطالعة، عدى حلقات نقاش سياسية مبرمجة. وكان دائما من اللازم بالنسبة لنا أن نحيط أنفسنا بحذر شديد للحصول على الكتب والصحف.
كنّا طيلة مُقامنا في السنغال، نتخاطب، حتى في محل إقامتنا، بأسماء مستعارة.
أخيرا، تمكنا من الرجوع إلى أنواكشوط في منتصف شهر يوليو 1979.
ألتقيت أنا ومحمد المصطفى، في شهر أغسطس الموالي، لتحضير وتنظيم المسيرة الكبرى التي حيَتْ اتفاقية الجزائر الموقعة في 5 أغسطس 1979 والتي خرحت موريتانيا بمُقتضاها من حرب الصحراء.
كنّا في تلك المسيرة، على شارع جمال عبد الناصر، في الصف الأول جنبا إلى جنب، وكان في جوارنا المباشر شيخن ولد محمد لغظف، وربما عبد القادر كمرا.
ومنذ ذلك التاريخ، اعتبر النظام االعسكري، بأن الحركتينMND والبعثيين، هما حلفاؤه الحقيقيون والأكثر صدقا، وقد أعطاهما الثقة، وهما قد بذلا جهودا من أجل إعطائه ما هو في أمس الحاجة إليه: الإنفتاح على القاعدة الشعبية والشباب الأكثر وعياً وحيويةً، ودعاية فعالةً تتسرب بنجاح إلى اللحمة الشعبية، وتُضيف له الأفكار السياسية والتفكير السياسي الذي نضّجته سنوات من النقاش الدائم حول المشاكل الأساسية للبلد.
في تلك الفترة، كانت مشكلة لغة التعليم شائكة إلى حد اليأس. وبدون تأخير، تم الإتفاق على تشكيل لجنة تضم عدة قادة سياسيين من اتجاهات مختلفة- من بينهم محمد المصطفى- للنظر في المسألة. إذا كان من رأي سديد يمكنه أن يتبلور، فهو من خلال مَجْمَع من السيّاسيين المُحنَّكين والصّادقين. أما المروق عن المنطق فهو أن تحاول الدولة، في سرية المكاتب الموصدة ومن خلال لغة خشبية، أن تتلمَّس بالأخذ من هنا ومن هناك، آراء غير مبْنيّة لمُوظفين لم يقضوا ولو يوما واحدا في النقاش والتفكير حول مسائل وطنية شائكة، في الوقت الذي هي تتطلب سنوات من التفكير والنقاش.
السياسيون وحدهم، لديهم سبق تقدم في نقاش ودراسة المسائل الأساسية للبلد.
في لجنة التعليم هذه، برز بسرعة الإتفاق على أنه من حق المواطنين اختيار لغة تعليم أبنائهم، وتم تحديد فترة انتقالية، وتم الشروع فيها فورا، مع أفق صيغة نهائية يجب وضع ملامحها وتثبيتها والتصديق عليها بعد ست سنوات.
ومنذ ذلك الحين، لم يُسمَع ولم يُتكلّم عن مشكلة لغة التعليم. إلا أنه بعد ست سنوات، نَسِيَّتْ السلطات أو تناست، المرحلة الثانية من خارطة التعليم، لأن الأزمة لم تعُد مطروحةً في المؤسسات التعليمية، وفُضّلت بعد ذلك، السهولة والإنتهازية، وتُركت الأمور تسير بدون اضطراب بدلا من مواجهة المستقبل ووضع حلول نهائية.
هذا الشرخ أو هذا الخرق، ظهر تأثيره بعد سنوات على تماسك وفعالية النظام التعليمي في البلاد. كان السياسيون قد أُبعدوا نهائيًّا، أما مُمثّلو السكان، فلم يجر معهم أي تشاور. فكان أن دخل عهد الموظفين، الذين ليس لديهم بالضرورة وازع ضمير عال، وليست لديهم قطعا النظرة الشاملة والقدرة على إستيعاب- في وقت واحد- الجانب السياسي والجانب الإجتماعي لتسيير الملفات، في الوقت الذي لا يُحسّون بسلطة تُرغمهم على التحلّي بإطار دقيق متفق عليه، يحول دون سيرهم على غير هدى. وعلاوة على ذلك كلّه، فإن القرائن تُبيّنُ التلاعب من طرف الأجنبي، ومناوراته، وهو الذي كان أصلا، معادٍ لنظام التعليم النابع من إصلاح 1979. وكانت تلك اليد الكامنة متربصةً لتخريب النظام التعليمي، فوجدت الثغرات وعمّقتْها، وفي نهاية الأمر، صرخت في آذان السلطات العليا، وهي ناقصة الإطلاع، أن التهذيب الوطني مريض بكل بساطة بسبب اللغة العربية.
لقد خلق تخلى السلطات عن واجباتها، تراكماً مُخيفا من الإختلالات دمّرت وأفسدت النظام التعليمي برُمّته، وقادت إلى المرحلة الحالية التي أصبح فيها الرُّكود وعدم المبادرة ضارًا، والفعل والتصرف خطيرًا!

– يتواصل-

Exit mobile version