البارحة لم تكن ليلة عادية في تاريخ موريتانيا ؛ كانت ليلة خجل بامتياز؛ جمعت أدعياء الصحافة و عصابة النظام على جثة موريتانيا المستباحة .. البارحة كنا نقدم للعالم على الهواء مباشرة، أحد آخر نماذج الأنظمة الإفريقية المزورة بجميع آكسسوارتها .. كان الجميع أمام الشاشات يسخر من سخافة “براءة” أسئلة الصحافة و “براعة” أكاذيب جحا..
لم يكن من بين “الصحافة” التي حضرت المؤتمر من يفهم لماذا عقد ولد عبد العزيز هذا المؤتمر و لا لماذا تم اختياره هو لطرح الأسئلة فيه على من يسميه سيدي ولد النمين ساخرا أو جادا برئيس الجمهورية ؛ فما عدنا في هذا البلد نستطيع التمييز بين الأضداد و لا أدري في الحقيقة أيهما أكثر سخرية أن تنعت رئيس عصابة كومبا با جادا أو ساخرا برئيس الجمهورية !!؟
البارحة لم تكن ليلة عادية ؛ فلأول مرة في تاريخ البلد تنتصر المعارضة على النظام و تحشره في زاوية ضيقة لا يعرف كيف يفلت منها ليستنجد بسذاجة “الصحافةّ كي يظهر نفسه في موقف المنتصر !!؟
هذا المؤتمر الصحفي الذي لم يكن مؤتمرا في أي وجه من أوجهه و لا صحفيا بأي من معانيه ، لم يكن مقررا و لا جزء من الزيارة ليصبح في آخر لحظة أهم ملحقاتها و يصبح من شروط نجاحه أن لا يدعى له أي “صحفي” يمكن أن يفهم لماذا تم عقده تماما كما حصل:
حين أطلق ولد عبد العزيز زوبعة حواره من دون سابق إنذار، كان يعتقد أن المعارضة ستنتهز فرصة “جنوحه” لترتمي فيه من دون شرط و لا قيد .. كان ولد عبد العزيز يعتقد ـ حد اليقين ـ أن المعارضة لا يمكن أن ترفض حوارا يمهد لانتخابات رئاسية يشترك فيها الجميع بما يريدون من شروط .. و على هذا الأساس ، صمم ولد عبد العزيز زيارة الحوضين لتكون بداية حملته ..
كانت بعض الأطراف ـ داخل المعارضة ـ قد أكدت لولد عبد العزيز أنها ستعمل على نجاح مبتغاه و تعاملت معه ـ تحت الطاولة ـ على تمرير مخططه كما يريد بالضبط ، فماذا حدث و أين انتصرت المعارضة عليه؟
1 ـ كان الهدف من ما عرف بـ”ممهدات الحوار” التي تحولت إلى لغز حقيقي عند البعض بسبب نعت بعض أطراف المعارضة لها بالتعجيزية بدل النظام (؟) ، هو فض الاشتباك : حيث كان لا بد من كشف كل المستور في اللعبة ؛ إذا قبلتها الأطراف المتعاملة مع ولد عبد العزيز نكثت بوعدها و إذا رفضتها انكشفت على مستوى المعارضة ، تماما مثل ما حدث : و هذا انتصار رائع ..
2 ـ لأن ولد عبد العزيز صمم زيارة الحوضين لبدء حملته ، كان من الضروري أن لا يعرف موقف المعارضة من الحوار حتى لا يعرف كيف يوظفه في الزيارة : و قد لاحظ الجميع أنه لم يستطع أن ينبس بكلمة واحدة خلال أسبوعين أمضاها بين ساكنة أكبر ولايتين في البلد . و الحقيقة أنه كان يتحاشى كل ما يمكن أن يجره إلى الحديث عن “الحوار” أو عن ما كان يفكر فيه.. لهذا السبب ظلت المعارضة تماطل بطرق ذكية حتى دخل ولد عبد العزيز زيارته من دون أن ترد عليه.. و هذا عمل استباقي لم يفشل ما كان يريده ولد عبد العزيز فقط و إنما أكد صحة قراءة المعارضة لكل ما يجول في عقله المريض…
3 ـ خلت تشكيلة فريق المعارضة المنتدب لمهمة الحوار مع النظام من أي شخصية ممن كانوا يعدونه بشق صفوف المعارضة و جرها إلى الحوار من دون شروط و هو عمل لا يمكن أن يتم بالصدفة لتشعب هذه الأطراف و قوة نفوذها داخل المنتدى ..
من لا يفهم الآن من خلال هذه النقاط أن ما قامت به المعارضة كان عملا نوعيا محكم الترتيب و في منتهى الذكاء ، إما أن يكون غير مهيأ أصلا لفهم هذه الأمور و إما أن يكون ممن وهبهم الله ملكة أن ما يقوله الرئيس هو الحقيقة ، حتى لو كان رئيس عصابة.
لقد أمضى ولد عبد العزيز 10 أيام في الحوضين يفكر في طريقة للرد على المعارضة، لهذا لم يكن له أي وقت في التفكير في مشاكل المنطقة و سكانها الذين احتاروا من عدم اكتراثه بما تعانيه من مشاكل كانت تتطلب تدخلا سريعا من النظام لا وعودا عرقوبية ، سمعها السكان من ولد عبد العزيز للمرة الرابعة من دون أي فائدة..
عاد ولد عبد العزيز من زيارة الحوضين بخيبة أمل كبيرة ، معتقدا أن من وعدوه بجر المعارضة إلى طاولة الحوار معه بلا شروط، قد خذلوه و هو ما ظهر البارحة من خلال تهجمه المباشر على أهم من أظهروا اندفاعا غير مفهوم نحو الحوار من داخل صفوف المعارضة..
و صحيح أن ولد عبد العزيز اجتمع بممثلي من يسمون أنفسهم بالأغلبية (المزورة ككل شيء آخر في دولته) و أخبرهم بأنه هو من طرح فكر الحوار الذي قرؤوا عنه في مواقع صحافة البشمرغة كما وصفها بعضهم في ذلك الاجتماع .. لكن ولد عبد العزيز لم يخبرهم ، لا لماذا يريد الحوار و لا كيف يريده و لا متى و لا أين و لا حول ماذا و لا لأي غاية أخرى ؟؟ و أتحدى أقرب مقربي ولد عبد العزيز أن يرد على أي من هذه الأسئلة إذا كان يدعي أن ولد عبد العزيز أطلعهم عليها كما ادعى في مؤتمره؟
و يظهر بوضوح من خلال اختيار “صحافة مؤتمر البارحة” أن من تولوا هذه المهمة لم يفهموا ما يدور على الساحة فوقعوا في ما كان يجب أن يتحاشوه بالضبط لأنهم تورطوا في فهم الصورة التي يظهر ولد عبد العزيز بدل التي يضمر، فتهاطلت عليهم أسئلة محرجة من ما كانوا يعتبرونهم “مأمنا” بسبب تعقيد المغالطات و انكشاف فخوخ اللحظة الأخيرة، فما بعد زيارة الطينطان، كان يحتاج إلى عقل أكبر من عقل “خيرة” و ولد محم لقراءة تداعياته المحسوسة أكثر من الملموسة..
لقد أصبح الجميع في المعارضة يسارع إلى لملمة جراح نواياه السلبية لتدارك مواقفهم فاغتنم بعضهم فرصة المؤتمر لإبعاد التهم عنهم و اغتنمها البعض في مؤتمر المعارضة الذي سبقه بساعات في فندق الخاطر لنفس الغرض. و كان من عبقرية المعارضة أنها لم تغلق هذا الباب أمامهم و تركت لهم طريق العودة سالكا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه و ستظهر الأيام القادمة أن من كانوا يتقربون إلى ولد عبد العزيز في الأسابيع الماضية سيصبحون ألد أعدائه في المراحل القادمة و هو ما تحتاجه المعارضة التي تؤكد كل المعطيات أن مواجهتها مع النظام في المنتظر القريب ستكون من نوع جديد يحتاج حرق جميع المشاركين فيها لكل زوارق العودة.
لقد رد ولد عبد العزيز على ممهدات الحوار في هذا المؤتمر قبل أن يصل رد اللجنة التي كلفها بالرد على وثيقة المعارضة و هذا خطأ آخر ينم عن خفة عقله و تهور ردة فعله ؛ فإذا تبنت اللجنة ردوده أوقفت كل شيء بنفسها و إذا لم تتبناها ستلزمها المعارضة بتحديد من يجب اعتماد قوله من هذا الطرف و هنا سيحتاج ولد عبد العزيز إلى ممهدات أخرى لتأكيد مصداقية مصداقيته..
وعود كاذبة في الشرق و هروب من مشاكل الشمال ؛ هذا ما لخصته زيارة ولد عبد العزيز للحوضين، فأين ما كان يريده منها..؟
لقد اتضح من هذا المؤتمر أن خطط ولد عبد العزيز “ا” و “ب” قد فشلت (تغيير الدستور، تغيير النظام الرئاسي). و لم يبق أمامه الآن إلا التفكير في الخطة “ج” (إعداد شخص من مقربيه المتورطين معه بنفس الدرجة ) و هي مهمة أصعب من سابقاتها بكثير لأن أولوية المعارضة الآن هي إسقاط نظام ولد عبد العزيز و ليس إسقاط ولد عبد العزيز وحده. و أدرك جيدا أن الكثيرين يشككون في قدرتها على ذلك لكنني متأكد أنها أصبحت قادرة على الوصول لأي هدف ترسمه لنفسها لأنها أصبحت تملك رؤية واضحة و إرادة تغيير حقيقية و أصبحت تحكم العقل و تتقبل النقد و تحولت من مرحلة ردة الفعل إلى صناعة الفعل ..
هناك الآن عقول كبيرة في المعارضة، تعالج الأمور بعقلانية و تتشاور في الحلول و تستميت في الدفاع عن ما تقرره؛ و هذا ما كان ينقصها بالضبط..
الآن اكتشف من صدقوا صدق نية ولد عبد العزيز من المعارضة أنهم كانوا سيقعون في أكبر خطأ في حياتهم و تأكد من لم يصدقوه أن عزيز لم و لن يتغير و هذا يعني أن الحوار لن يكون لأن ولد عبد العزيز لا يملك صفة الطرف الجدير بالثقة و الاحترام، لا داخل أغلبيته المتذاكية في التلاعب به عكس ما يعتقده البعض و لا داخل المعارضة التي أصبحت مقتنعة بأن فاتورة بقاء ولد عبد العزيز أغلى من فاتورة أي تضحية في سبيل رحيله..
لم يستطع ولد عبد العزيز أن يستثمر مؤتمره في أي شيء يخدمه و كانت أكاذيبه مكشوفة للجميع :
ـ لا يملك ولد عبد العزيز أي حل لمشكلة “اسنيم” و إذا قرر عمالها غدا أن يعودوا إلى عملهم من دون شروط لن يقبلها منهم لأنه أفلسها حتى أصبحت غير قادرة على البقاء بأي صفة و يفضل الآن أن يكون إضراب عمالها هو السبب في توقفها الحتمي ..
ـ التغطية على جريمة ولد بايه بالقول إنه مستهدف بسبب انتمائه هي أغبى ما يمكن أن ينتجه عقل بشري. و يكفي جريمة ولد بايه بشاعة أن ولد عبد العزيز لم يستطع الدفاع عنها بالكذب كعادته فشخصن الموضوع على طريقته، لكنه نسي أن ولد بايه ما كان يستطيع أن يرتكب هذه الجريمة من دون “انتمائه” و قربه منه مما يعني بكل بساطة أن كلامه كان أغبى من فعلة ولد بايه ..
ـ يجهل ولد عبد العزيز ـ و هذا أمر يمكن فهمه بسهولة ـ أن ما كسبته فرنسا من كتابات فيكتور هيغو أكثر من مداخيل شركة بيجو ، لكن أين للشعر و الشعراء أن تكون لهم أي قيمة في بلد يقوده مبلدو إحساس مثله هو و محسن ولد تالحاج و امربيه ربو؟ لا أعتقد أن شعراء موريتانيا و فنانوها كانوا ينتظرون من ميكانيكي مثلك أكثر من هذا الازدراء . و يكفي الشعر سموا و احتراما أنه كشف للجميع أنك تحتاج إلى شهادة انتماء إلى أرضه باعتراف منك..
ـ لقد حاول ولد عبد العزيز في هذه الزيارة أن يظهر للجميع أنه بصحة جيدة و يبدو أن أهم ما حصل في هذه الزيارة أنها كشفت بوضوح كل عقد ولد عبد العزيز و عرت كل أكاذيبه : فهل تستطيع إظهار كشفك الطبي للموريتانيين لتدفع عنك تهمة “المقعد مدى الحياة” التي أؤكدها للجميع و أبصم عليها بالعشر؟؟
نعم ، لقد أفسد ولد عبد العزيز كل شيء في هذا البلد لكن عزاء أهله في أن الأشياء لا تنتهي إلا بنهاياتها.
و كل ما نستطيع تأكيده هنا هو أن نهاية ولد عبد العزيز لن تكون سعيدة مهما حدث.