… فعادة أهل الفضل ذكر المحاسن / الأستاذ الدكتور إزيد بيه ولد محمد محمود

قرأت التصريح الذي أدلت به الأخت منى منت الدي، بخصوص ما ورد على لساني في المؤتمر الصحفي قبل الأخير، وقراءتي له كانت أفقية، ولم أستعن بعلوم مساعدة، لا ولا علوم آلة على ملَة أجلاء المفسرين (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) النساء – الآية رقم 5.
بل استحضرت درس تاريخ اليونان الذي كنا قد تلقيناه– ونحن طلبة – في مدرج الأرزوسي بجامعة دمشق، فقد حدثنا الأستاذ قال “إن اليونانيين كلما عجزوا عن تفسير ظاهرة أعطوها إلها”، فللعواصف إله وللحب إله وللخصب إله، حتى تطمئن نفوسهم، ويحصل التوازن، فلن تستغرب إذا تعددت الآلهة عندهم، فهي حسب الظواهر التي تحار فيها الأذهان المتقدة. فهم وثنيون في اعتقادهم، أعاذنا الله من شر اعتقادهم ونحمده جلت قدرته أن هدانا للإيمان، غير أنهم تلمسوا العلة وراء ما حيرهم، وخير الفكر ما نفعك عند الاقتضاء، وخير الثقافة ما بقي عندما ننسى كل شيء، وأشهد أن الراسب في الذاكرة منها ضئيل وهزيل، والحق ما شهدت به الأعداء، فأنا عدو لنفسي.

استحضرت درس اليونان عند تفسير موقف كل من ينال من عرضي دون وجه، وحين أعجز عن التفسير المقنع، أرجعه للسخط والحنق على “منة” من المنن، التي أنام ملء جفوني عن شواردها، وأعُينها، والمعين مُبدع، فيرجع لي توازني.

قصتي مع هؤلاء قصة سيزيف التي درسناها في المسرح الذهني: هم ينالون مني – في زعمهم – وأنا أنال منهم – في ملتي واعتقادي – مرجعا النيل إلى عامل يرد لي توازني، وهكذا أبد الآبدين ما حيينا، نسأل الله حسن المآل.

وإذا اتسق ذلك فإني أدلف للتصريح آنف الذكر، وأتوقف عند الكلمة الجارحة، وإذا كان “تائها”، “جرح السنان ولا جرح اللسان”، لأن جراح السنان لها التئام… كما يرى الشاعر.

فأولتها – لعدم فهمي لها وأقر بعجزي عن تفسيرها كما اليونان – من معنى التيه، الصفة التي تتردَى بي إلى القاع السحيق الذي لا قرار له، إلى (القمة الشماء رغم الداء والأعداء)، وذهبت بنفسي مذهب أبي العباس إبراهام في مقاله حين شبهني بالمتنبي، و كذلك فعل محمد المختار الشنقيطي ولكن ليقدح لا ليمدح، في فخاري واعتزازي بنفسي حد النرجسية (نسبة للنرجس الذي يتفتق حول ذاته حبا فيها) فالتيه كذلك هو الفخار (أنظر مادة تاه في اللسان)، فأنا أفضل أن أكون فخورا عن أن أكون ضالا (لأن أرعى الجمال عند ابن تاشفين خير لي من أن أرعى الخنازير عند الفونسو)، فقد وقر في أذني شعر لابن عم لي يثني على مدينة “كرو”، ودائما ما يكون ثناؤنا على أًصلنا وفصلنا فيه متسع للعموم، من باب:

ونحن ركب من الأشراف منتظم *** أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة *** بها نبين دين الله تبيانا

وقد كان عهدي بهذين البيتين واجهة للمتحف الوطني. وقر في أذني:

ويا “كرو” ته واختل وامش تبخترا *** وجر رداء الفخر فوق المدائن

وكعادتي رجعت لنفسي وتمت المقاصة بين معنى التيه – الضياع – الذي أعطتني أختي منى التي لم تعرفني إلا متهلل الوجه في السلام عليها وضاحك السن في تحيتها، وكذلك يعرفني والدها، ولساني يلهج بالثناء على منبتها الكريم، ومعنى التيه – الفخار والاعتداد بالنفس – المعروف عني وعن أصلي وفصلي…

كان ذلك ما كان طيلة الأسبوعين المنصرمين، واليوم في سياق مثل ضبة بن أدَ، تندر أحدهم في الحديث معي قائلا انت أصبحت شاعرا، رفعت عقيرتي قائلا له… إنه لا ينبغي لي، مع أني لست كالشافعي في الموقف منه، ولكني ما زلت أرى أن من أوتي حظا من فضيلة حرم من الأخرى التي دائما تكون توأما لها (كالكتابة والخطابة، الشعر والنثر، الجمال والطرافة)، ولم أنس لا أنس ما قاله المرحوم العلامة محمد سالم ولد عدود، في سياق المضارعة بينه وبين أحد علماء البلاد في مجال معرفة العلوم الشرعية، “يمكن أن تلفي من هو أفقه مني في الفقه أو أعمق مني غورا في اللسان العربي أو أوسع مني صدرا في مجال التفسير والحديث، ولكن لن تلفي من هو أعلم مني بهذه العلوم مجتمعة” فالمحظوظ الموفق من أوتي حظا معلوما مطلوبا من كل شيء، وأن يكون مشاركا، فأنا لم أقل شعرا في حياتي. استوضحته الأمر فقص علي تدوينة لمدون يدعى “الطيب عبد الله ديدي” التي ختمها بقوله: “اختتم معالي الوزير اعتذاره الطويل بـ:
لا تغضــــبي منـــــي فإني تائه *** ما زلت أبحث في الهوى عن ذاتي
هذا اعتذاري باسم لك فابتسمي *** وبوصفـــــه ليســــت تفي كلمــاتي

ويشهد الله أنه قذفني في المبتدأ والمنتهى ولم ينل مني ردا قطّ.

ألم تر أن السيف ينقص قدره *** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

وقد قرأت عن أهل التصوف البيت المشهور عنهم:

لا تلم المشتاق في أشواقه *** حتى يكون حشاك في أحشائه

عند ذلك علمت أن التيه الذي تقصد منى منت الدي هو ما قصد المدون على لساني، وكنت أربأ بها أن تجاري هذا المدون الذي يتوارى وراء اسم مستعار، ومن يقرأ صفحته يلفيه يستهدف قبيلة بذاتها، وجهة بعينها. وقد قرأنا عن الإيطاليين أنه لا توجد جريمة تامة، وأؤكد له أن من يستهدف لحمه بطعم العلقم. ومع أني كنت أوصي من تستهدفه آكلات لحوم البشر الذين يتقاضون على ذلك “بدل سمعة”، على حد تعبير المشارقة، أن لا يرد لاعتبارات أقلها غياب التماهي، ولم أرد في يوم من الأيام على السيل المنهمر من الشتائم عبر البنان واللسان. انظر ما قيل على لساني شعرا، “وكأن التاريخ يعيد نفسه” حين رفضت الذهاب إلى الجزيرة مطالع 2001م، لمناظرة مع الأستاذ جميل ولد منصور في “الاتجاه المعاكس”، وما قيل عني في أروقة الجامعة خلال ما يربو على ثلاثين سنة من التدريس فيها، في الاعلام المأجور الحاقد، وأنا آخذ بأوصاف مختلفة، مرة لانتسابي لقبيلة بعينها، ومرة لانتسابي لجهة بذاتها، وثالثة للدفاع عن نظام معين، ورابعة لشركاء الصنعة، وقيمة كل امرئ ما يحسن. وقد بينت أكثر من مرة فذلكة ذلك في الكتابة والخطابة. فأوصى مرة أخرى من استهدف أن لا يرد إلا من ظلم فلا جناح عليه “لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ” النساء –الآية 148. فمثلا، هذا الجكني الذي استساغ النيل من عرضي وتقاطر دم لحمي نيئا من بين شدقيه، لم يكن لي علم بوجوده، ومع ذلك فهو يباري أحد المدونين في عمق فهمه لشخصيتي، إلى حين سألت عنه أحد الأصدقاء فقال لي إنه أخ لمحمد المختار الشنقيطي، وأنا علمت ما في نفسه من خلال ما دون. ولكن يا معشر القراء ما كتب عني أخوه آنف الذكر سنة 2004، أقل المثالب فيه أني وثني سياسي أعبد الحكام (فقد باء بها أحدهما، لأنها لا تسقط بين اثنين). وأول لقاء لي معه بعد كتابة المقال، كان في ندوة شهدها جمع غفير من قادة الرأي والمثقفين في “فندق بالاس” في يوم مشهود، وكنت أول من تدخل تناثرت على لساني درر البيان وخرزه الأصيلة في الثناء عليه، والحال أن لساني عضب صارم، وذكري للمثالب به مادة لاصقة، تطير بها الركبان حتى بعد أن يصير المرء إلى ما قدم، لكني تعلمت أن عادة أهل الفضل “ذكر المحاسن”، فأنا أتشبه بأهل الفضل ولست منهم، جريا على العادة.

نقلا عن وكالة الأخبار

Exit mobile version