إبتسامتك مرسومةً في ذاكرتي وجرح رحيلك عميق داخل قلبي ياصديقي رحمك الله.

لايزال ذلك اليوم وتلك الصورة محفوظان في مكان بعيدٍ من ذاكرتي ،على الرغم من تقادم الحدثِ وحداثة سني وقت وقوعه ، كنّا مجموعةً من الأطفال ندرس في الصف الرابع أو الخامس الإبتدائي في المدرسة رقم 2 بمدينة كرو ، وقد كنّا وقتها في باحة المدرسة وقت استراحة العاشرة صباحاً نلعب ،وأتذكرُ أنه حدث شجاًرٌ بين طفلين كما يحدث عادةً بين أطفال تلك المرحلة ،ولَم يتدخل أي أحدٍ منا لفض ذالك الشجار سوى ممود ولد الطالب ألمين رحمه الله تعالى ، وذلك بابتسامة وكلمة حسنة .
الآن وبعد شهرين بالضبط على رحيل ممود عن هذه
الدنيا ، أتذكرُ أن ذالك الحدث هو أقدم مخطوطاتِ ممود في ذاكرتي والتي ظلت منذ ذلك التاريخ وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً مسرحاً لمخطوطاته ورسوماته رحمه الله حيثُ كان قلمُه البسمة ، ومدادُه الوفاء والصدق ،والإيثار ،والكرمُ والتواضع،و حسن الخلقِ وبرُّ الوالدين
لقد تعرفت على صديقي المرحوم ممود أيام المدرسة الإبتدائية حيثُ جمعَنا سقف فصلٍ واحد ،ولعبنا في ساحات حي لمتوك ، قَبْلَ أن يتحرك قطارُ الزمن ويأخذ كلا مناّ إلى جهة ، فقد اختار ممود رحمهُ الله الذهاب إلى محظرة شيخ الشيوخ لمرابط الحاج ولد فحفو رحمه الله لتلقي العلوم المحظرية هناك ،وبعد ذاك سافرَ إلى مدينة انواذيبو طالباً للكسب الحلال ، وتوجهت ُ أنا إلى انواكشوط لمواصلة التعليم الثانوي والجامعي بعد ذلك .
انقطعت أخبار ممود رحمه الله عني تماما كما انقطعت أخباري أنا ، إلا أنه ظل دائما يحرصُ خلال زياراته السنوية لمدينة كرو على السؤال عن أخباري ، والإتصال بي إذا كنت هناك ، ولكم كنت أشعر بالسعادة في كل عطلة دراسية تصادف زيارة ممود لمدينة كرو .
مرّت سنوات الدراسة الثانوية والجامعية ، ووجدت نفسي في مدينة انواذيبو مقتحماً سوق العمل هناك من البوابة التجارية وهي نفس البوابة التي دخل منها ممود رحمهُ الله قبلي بسنوات ، إلا أن لقائي بهِ كان صدفةً ومن غير ميعاد ، التقيت ممود في انواذيبو في اليوم الثاني لي هناك داخل مقرٌِ أحد البنوك المحلية وعرفته ببسمته ِ المعهودة وسألته ( انت ممود؟) فأجابني دون تردد (سيد محمد أصل انزاد انواذيبو ) عانقني بحرارة عناق الصديق لصديقهِ بعد طول غياب ،وأصرٌ على أن لا نفترق بعدها أبداً إلا لضرورة ، كان ممود رحمه الله أخا وصديقاً مخلصاً ومرشداً وناصحاً لي طيلة مقامهِ في انواذيبو ، وقد كان متنفساً لي أبوحُ لَهُ بأفراحي وأحزاني ، وكان رحمهُ الله دائما يأمرني بالصالحِ من القول والفعلِ ، وينهاني عن رفيق السوء وعن كل ما يخالف شرع الله من القول والعمل ،
لقد كان ممود رحمهُ الله تعالى يخافُ رَبِّه ويعلم علمَ اليقين أنه سيموت وسيسأل بين يديْهِ، وكان دائما يقول لي : ( اصويحبي اعرف انك لاهي اتموت مزلت وتسول )
كان ممود رحمه الله يصبرُ على زلاّتي – وهي كثيرة – وكان دائما ما يستخدمُ اُسلوب المرح والمداعبة معي ويستقبلُ أخطائى بقلبٍ أبيضٍ وعقلٍ جامحٍ وكان يلعب دور الأخ الأكبر معي قَبْلَ أن يقرر الرحيل من جديد هَذِهِ المرة خارج الوطن وتحديداً إلى الولايات المتحدة ليتركني في انواذيبو وحيدا ……..
دارت عجلة الزمن من جديد ليستقبلني ممود في مطار سينسناتي بولاية أوهايو ببسمتهِ المعهودة وعناقه الدافئ ولسان حالي يقول له ليتك ماتركتني وحيداً هناك ،
ظل ممود رحمهُ الله وعلى مدى ثلاثة عشر سنة قضيناها معاً في الولايات المتحدة الأمريكية هو نفسُ ممود الذي عرفته أيام المدرسة بخلقهِ الحسن ، وهو ممود الذي عرفتهُ في انواذيبو بكرمهِ ونصحهِ وصبرهِ وأمرهِ لي بالمعروف .
كان رحمه الله يتحمل عناء السفر إلى حيث أسكنُ في كل مرة ينوي فيها زيارة الوطن لكي يوصيني وينصحني ويحمل أخباري إلى والدتي رحمها الله تعالى ، كما كان يحرصُ على زيارتها رحمها الله في كل مرة يزور فيها انواكشوط ، إذ كانت تقول لي دائما ( ممود شي اكبير )
كل من عرف ممود أُحبّه لحسن خلقه ، وكل من ساكن ممود أو سافرَ معهُ أحبهُ لتواضعه واستقامته وإيثاره وكرمهِ ، وكل من صادق ممود أحبه لوفائه وصدقه واستعداده لدفعِ الغالي والنفيس من أجلِ الحفاظِ على تلك الصداقة
اذا انتُزِعتْ رسوم ومخطوطات ممود رحمهُ الله من ذاكرتي فستبقى خاوية ، والوقت هنا لا يسمح بذكر أو بعرضِ أي من تلك الرسوم ولا أي من تلك المخطوطات ، وربماَ سأعود لنبشها قليلا إذا كان في العمر بقية .
عزائي أن ممود رحمهُ الله كان باراً لوالديهِ -وقد أشهداني على ذالك – مقيماً للصلاةِ ، مجتنباً للمعاصي ، وقد حلٌ ضيفاً عند رب رحيم ،
أسألُ الله تعالى بأسمائهِ الحسنى أن يرحمهُ وأن يباركَ في خلفهِ وأن يرزقني وأهله الصبر والسلوان ، وأن يرحمَ والديناَ وجميع موتى المسلمين .

سيد محمد ولد سيد المصطف
واشنطن بتاريخ 20فبراير 2019

Exit mobile version