الحوار الضرورة والمعوقات /اسغير العتيق

الضرورة الملحة للحوار السياسي والاجتماعي من الأمور المتفق عليها لكونه أسهل وسيلة متاحة وأرقاها وأقلها تكلفة وأخفها ضريبة وأحلاها تذوقا للنتيجة ،خلافا لخيارات أخرى قد تكون أسرع لإزاحة الحكم المتسلط، الحكم الفاسد ،الحكم الظالم ،الحكم الاستثنائي، لكن ضريبة خيار غير الحوار الهادئ المسئول، ثقيلة مرة النتائج وخيمة العواقب ،حتى ولو كان تغيير الحكم عن طريق ثورة أو انتفاضة بيضاء أو انقلاب مثلها .

الكثير من الناس لا يجد استراحة ضميره – أضعف الإيمان- في غير صب محصلة الغضب الذي يعبر عن عمق استيائه وكامل أسفه عن ضعف وسيلة مقاومته لبطش الآفات بحقله الزراعي ، يناجي وينادي فلا مستمع ولا مجيب، يصيح ينكسر الصوت مرتدا،يصرخ في فضاء مشبع بتغريد الطيور وعويل الذئاب و الحيوانات المفترسة وزئير الأسود المكشرة عن أنياب الافتراس وصهيل الخيول ونهيق الحمير وصياح الأغنام والأبقار فيحجب صوته الخافت كالغارق في آخر لحظات دعوات النجدة ،يمد يده فتغطيها أجنحة النسور الحائمة على الجثة الهامدة.

تلك لعمري هي الصورة الشمسية الفوتوكرافية الرقمية الحقيقية لحقلي الزراعي – موريتانيا – شاسع المساحة الصالحة للتنمية البشرية أولا ثم الزراعية والاستخراجية والحيوانية،غير أنني مع كل إشراق شمس ليوم جديد ترتفع وتتنوع آفات ضياع حقلي الغالي ومزرعتي الناشئة التي أصبحت حلبة مصارعة لقوى اثنية،طائفية،قبلية،جهوية وعرقية، في مزرعة كهذه منزوعة السياج تكون الحياة للأقوى .

الحوار مهم وضروري وصالح لكل زمان و لكل مكان ،قد تكون مسألة ما ذات طابع استعجالي لمفاوضات حوارية سريعة أكثر من قضايا أحرى تفرض نفسها على الواقع في صيغة قابلة للانتظار قليلا، غير انه يجب أن لا يغيب عن الذهن إن ترك المعضلة يزيد في تعقيدها مع الزمن ، في وقتنا هذا وفي وضعنا هذا الذي يوحي بكل الدلائل والمعطيات إننا نقترب الساعة بعد الأخرى من نقطة الخطر الحمراء لتفكك النسيج الاجتماعي .

الفضاء مشبع بالضجيج والأصوات المعبرة عن الاستياء التام والشوارع الرئيسية غصت بالمضرب والمحتج والمعتصم لغير الله وبغير الله والمطالب بحق مسلوب الرافض لاستمرار وضعية لا يرى فيها نفسه ولا تولي لهمومه ومعاناته أي اهتمام، هذه الوضعية جعلت المواطن المظلوم ،المسحوق ،المهمش ،الجائع الفقير والقابع في مستوى خط أدنى من الحد العالمي للفقر، مكرها على اتخاذ واحد من خيارين اثنين،الأول: التسليم بالأمر الواقع والاستكانة لما لا مكانة فيه لمثله.

أما الخيار الثاني الذي يفرض نفسه إن أبى الخضوع والرضي وتقبل الأمر الواقع،التعبير بالأساليب والوسائل المتعارف عليها ديمقراطيا، والتي قد تقوده نتيجة للإحباط وفقدان الأمل، لعصيان مدني يبدأ بالاحتجاج و الاعتصام ثم الإضراب فالثورة والثورة أدهى وأمر ،قد تأتي على الأخضر واليابس لكونها ليست مضمونة النتائج الإيجابية ،ومع ذلك فهي وسيلة تعبير لرفض واقع الظلم، لذا تكون مفيدة حتى ولو كانت سلبية المخرجات في البداية ،فإنها ستكون في النهاية إيجابية ولو بعد 100 عام .

تغيب الثورة جيلا وتأتي بأخر سيتعثر لا محالة في الوهلة الأولى، لكنه سيستفيد من أخطاء سابقه، طبعا سيكون الجديد حذرا من أن يشرب من الكأس التي ارتوى منها سلفه، قد نأخذ تونس مثلا من ناحية ومصر من ناحية أخرى.

لا يختلف حجم الخسائر البشرية التي تسبب الثورة كثيرا عن حجمها الناتج عن الأضرار الكيميائية التي تسبب المصانع الإستخراجية للعمال:الأمراض ،الإعاقة والموت الجماعي وارتفاع درجة الخطر.

إن إضرابات،الطلاب،العمال ،التعليم الثانوي والأساسي وجرائم الاغتصاب والحرق ( حادثة عرفات)،جرائم القتل الأكثر من أن تعطى عنها أمثلة، سهولة تداول المخدرات والمؤثرات العقلية بيعا و استعمالا ومرورا ، الاحتكاك اليومي للجماعات التبشيرية الإرهابية بالشباب الباحث عن العمل،التصدعات الاجتماعية ،الطائفية الاثنية ،العبودية ،الإقصاء ،الغبن،الحيف والحذف ،الاستحواذ،الظلم ،تعطيل القوانين،البطالة،غياب العدالة ، الفقر ،الانسداد،العناد،المكابرة والتكبر ،اللامبالاة ،انعدام الجدية ،فقدان الإرادة ،المغالطة،التسفيه…كلها بذور لانفجار اجتماعي يلوح في الأفق.

فأروقة المرافق العمومية وقاعات غرف قصور العدالة في عاصمتنا الفتية ورضيعاتها الثلاثة (الجنوبية ،الغربية والشمالية) وربيبتها الحضرية وبنات الربيبة التسعة، مكتظة كلها بذوي النزاعات ،مخافر الشرطة امتلأت ،أقلام المدافعين جفت و اللافتات والإعلانات غطت واجهات المباني العمومية والخصوصية ،حتى القصر الرئاسي لم يسلم منها .

تحولت الصفحات الرئيسية للجرائد وواجهات المواقع اللالكترونية للوحة إعلانات واحتلت مسائيات النشرات المرئية والمسموعة أنباء الإضرابات والإعتصامات وامتعاض فلان وعلان وسكينة ومريم… وتصريح ناري لفلان ، واتهام هذا القطب لذاك …وهكذا انشغل الناس بالمهم قبل الأهم.

فالأهم حسب- رأينا- تسوية المشاكل والاستجابة لمطالب الضعفاء من عمال وغيرهم ثم بذل الجهد لامتصاص الأزمات بحكمة ومرونة، والاستماع بتعقل لأصحاب المظالم والمطالب وإنصافهم بتسوية مشاكلهم :عمال اسنيم،الطلاب،ضحايا الاسترقاق،الشباب العاطل ،عمال بيزرنو،العقدويين ،الأطباء والممرضين ،عمال وسائل الإعلام العمومي المحرومين من الزيادات …وأخيرا الدخول في الحوار قبل أن نكون من خبر كان، لإنهاء الاحتقان السياسي الذي أضفى بظلاله على كل هذه المشاكل وساهم في تكريسها وتعزيزها.

فالحوار إذن هو الحديث الحديث الذي يشغل المساحة الأكبر من مجالس الصالونات ويتصدر العناوين الرئيسية للنشرات المرئية والمسموعة وحديث ركاب التاكسي والباصات وتجمعات الطلبة والعمال وحتى السجناء الكل ينتظر والجميع يعيش الأمل ،في انتظار اتفاق أقطاب سياسية اتفقت على أن لا تتفق أبدا فهي العائق أمام الحوار وهي المعوق للوحدة والنمو والتقدم والازدهار .

Exit mobile version