بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة على أشرف المرسلين،
إخوتي الأفاضل، لا يعسني في هذه اللحظة الحرجة من المسار السياسي، وفي ظل ما تواجهون من عراقيل ومطبات أمام اختيار مرشح توافقي موحد يمثل جميع أطياف المعارضة في الاستحقاقات الرئاسية المقبلة، إلا أن أرجو لكم التوفيق وأشكر كل من دافع عن اختياري، من ضمن أسماء أخرى، لتحمل تلك المسؤولية الجسيمة، وإن كنت أعتذر عنها، لهم وللرأي العام، لجملة من الأسباب أنشر جلها في هذه الرسالة التي أرجو أن يتسع لها الصدر (ما أمكن هذه المرة).
إخوتي الكرام، لكي أكون صريحا معكم، وأنتم من قابلتم بالاعتراض، العنيف تارة، مبدأ صراحتي، أقول لكم انكم تواجهون اليوم تبعات نفوركم من كل ما كنت قد نبهتكم إلى ضرورة تحاشيه ما دام الوقت سانحا. فاليوم تقفون عاجزين أمام اختيار حاسم كلما تأخر كلما أصبحت فرص نجاحكم أقل، وكلما تأخر كلما انفض من حولكم الناخبون. كم مرة عبرت لكم عن أسفي على البطء الشديد في اتخذ القرارات المصيرية تحت ضغط المشاحنات الجانبية والضغائن المميتة التي جعلت منكم زمرا متفرقة مشتتة غير قادرة على القيام بأي فعل سياسي مُجْد، وكم مرة أخذتم عليّ مواجهتكم بالحقائق التي من أبسطها تبديدكم لآمال ناخبيكم وتخاذلكم كلما دق جرس الانتخابات. لقد أكدت لكم أن قدومكم متأخرين، ودخولكم في الحلبة غير متحدين، وغياب استراتيجية مدروسة توحدكم وتقدم تصورا واضحا لبرنامج مقنع، أمور تظل سببا في تفويت الفرص وعائقا كبيرا أمام تحقيق مطامحكم.
إخوتي في قيادة المعارضة، إن طريقة معالجتكم للملفات، بدءا باختيار المرشحين عنكم، وانتهاء بأسلوب النضال ونوعية الخطاب، لا تتماشى مع متطلبات المرحلة كما نبهت إليه مرارا، فأنتم لا شك تتذكرون ما جنته عليكم التخاذلات. لقد ضيعت المعارضة الكثير من الفرص. وكنت قد قلت بأن السيد أحمد ولد داداه كان سيكون رئيسا لموريتانيا سنة 2007 لكن المعارضة هي من منعه من تحقيق ذلك الهدف. لقد خذلته بمواقف مشهودة. وعندما أتى السيد مسعود ولد بلخير بمبادرة للحوار سنة 2011 رفضت المعارضة المضي معه في فترة كان بإمكان النظام أن يقوم فيها بالكثير من التنازلات. لقد خذلته المعارضة بدوره. وعندما قويت شوكة الجبهة الوطنية للديمقراطية والوحدة تقاعس حزب “تواصل” فأضعفها داخليا، وعندما قوي المنتدى أضعفه التكتل بانسحابه منه سنة 2016. إنها معارضة مجبولة على أن يخذل بعضها بعضا.
لقد قلت لكم بأنكم لن تستفيدوا من الأخطاء التي ارتكبتم سنة 2009 إذا بقيتم جامدين على نفس السلوك، لا تنجحون إلا في عقد الاجتماعات المطولة، ولا تتوصلون إلا إلى نتائج باهتة تطبعها الارتجالية والمجاملة، فعندما رأيت الخطر محدقا بكم قلت لكم: “إذا كنتم لا تريدون أن تتعرضوا في انتخابات 2019 لما تعرضتم له في انتخابات 2009، عليكم الاعتراف بأخطائكم ومعالجتها قبل كل شيء، خاصة أنكم الآن تقبعون في نفس الدوامة التي كنتم فيها سنة 2009، وترفضون تزاحم الأفكار الكفيل وحده بنجاح مسعاكم. كم مرة حذرتكم من السقوط في الهاوية السياسية ليس حبا أو كرها لكم ولا حبا أو كرها لغيركم وإنما لأنني جزء منكم، وقد ضحيت من أجل المعارضة في إطار البحث عن مخرج للبلاد من خلال تناوب سلمي يوصلنا إلى السلطة بحيث يمكننا تنفيذ رؤانا الإصلاحية أو المشاركة في سلطة تمكننا من تنفيذ بعض تلك الرؤى”.
كنت أكرر الفكرة منذ 2009 وكانت النتيجة أن بعض قادة المعارضة أصبحوا يتحرجون مني. اليوم ها نحن أمام نفس المطبات التي حذرتكم منها ووقعتم فيها سنة 2009، وقد تبينت، في ظل التعنت عليها، أن آرائي لم تأخذوها بعين الاعتبار، كما تبينت أنه لا يمكنكم تحقيق أي شيء بهذه الطريقة.
والحقيقة، إخوتي الأفاضل، أنني لست مرتاحا أبدا لأكون فاعلا أو مرشحا أو جزءا من مجموعة تعجز حتى عن القيام بوقفة تأمل. وهنا يجب أن تتأكدوا أن المعارضة بالنسبة لي ليست دينا ولا عقيدة. إنها آلية نجسد من خلالها مُثلنا ومبادئنا وتصوراتنا لأفضل السبل المؤدية لإصلاح الشأن العام. وهكذا فإنها آلية قد توصل لممارسة السلطة، ليس من أجل السلطة ولكن بغية تنفيذ مشاريعنا وخططنا وإصلاحاتنا في مجالات العدالة والاقتصاد والتعليم والصحة. وإذا أفقدها قادتها هذا البعد تكون أداة هدم بدلا من أداة بناء.
لقد عول عليكم الناخبون، ومثل بعضهم وقفت معكم في أصعب الظروف، وسحبت ترشحي لانتخابات 2014 فقط من أجل انسجامكم وتلبية لرغباتكم، رغم أنني لم أترشح حينها ضد أحد ولم أترشح من أجل أحد، وإنما تجسيدا لطموح إصلاحي لموريتانيا.
إنني أظل مقتنعا أن على الطبقة السياسية أن تسعى إلى إخراج البلاد من دوامة التجاذبات السياسية العقيمة التي لا تفضي إلى أي حل جذري حاسم لأنه آن الأوان لإعادة بناء موريتانيا على أسس سليمة وجديدة، متوجهة صوب المستقبل، تنزع فتيل الاحتقان، وتهيئ تربة العمل الديمقراطي السلس، الهادئ، والسلمي.
إن الوضعية التي تعيشها البلاد، والمتسمة بالاحتقان والتوتر، ومن ثم الانسداد، خلفت فراغا أنتج بدوره جوا من الإحباط والاستقالة. وإنني مقتنع أشد الاقتناع بضرورة إيجاد رؤية تستنهض همم الشباب والأطر كي يكونوا جزءا من مشروع “موريتانيا الجديدة”، لأن الوضعية من الخطورة بحيث لم يعد مقبولا من الشباب ومن الأطر أن يظلوا في حالة استقالة وإحباط أمام سفينة البلاد وهي تقع فريسة ليّ الذراع السياسي العقيم. الأمر الذي فشلت فيه المعارضة إلى أبعد الحدود.
إخوتي في المعارضة، لقد تجرأت، وحدي من ضمنكم، منذ 2016، على أن أقول لكم ان المعارضة التي تمجدون لم تزل تسلك الطريق الخطأ، وأنها فشلت في تحقيق مطالب ومطامح وآمال المواطنين التي لا يستحيل تحقيقها عند معالجتها بالمنطق العقلاني الواقعي. غير أنني اصطدمت بتعنت مقصود لم أفهم حتى الآن نوايا أصحابه. وبما أنني حريص، ككل الديمقراطيين، على بناء منظومة ديمقراطية تكون حاضنة لاستقرار وازدهار وتقدم البلد، فإنني لا أجدني مرتاحا للسير مع جماعة لا تأخذ العبر من ماضيها ولا تستوعب الدروس من سياساتها الفاشلة، وبالتالي أعتذر عن المضي على رأس قافلة تتجه صوب الهاوية ولا تقبل رأي أي دليل.
إخوتي الأعزاء، لقد طلبت منكم مرارا أن تتجاوزوا النهج الراديكالي لأنه لا يخدم المرامي النبيلة للسياسة، ولا يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان والتأزيم، غير أنني اصطدمت مرة أخرى بالفيتو المسلط منكم على كل محاولة لجر المعارضة إلى الواقعية. وكنت قد قلت لكم، عندما كنت رئيسا للمنتدى، انني أسعى من خلال الحوار إلى التوصل مع السلطات إلى قبول جو من الشفافية يسمح بإيجاد موطئ قدم للمعارضة من خلال المشاركة في اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات والمجلس الدستوري وكل هيئات الرقابة. وقلت لكم بأن الأمر يستحيل من دون لقاء النظام والنقاش معه. وكم أشفقت عليكم عندما عبر الراديكاليون فيكم عن رفضهم التام لكل ما من شأنه إحداث فرجة قد تهدئ الأوضاع السياسية بما يخدم المسار الديمقراطي. أولئك الراديكاليون يرون اليوم، كما كانوا يرون قبل عقود، أن على النظام أن يبقى في برجه المنعزل عنهم، وتبقى المعارضة في زاويتها المنقطعة وحدها، حتى تأتي المعجزة التي ستجعل المعارضة في مكان النظام وترمي بالنظام خارج اللعبة. إنه الوهم الفاعل فعلته بجل وأهم قادة المعارضة. ذلك الوهم الذي يقف حائلا دون أي انفراج من شأنه تطوير الفعل الديمقراطي. لقد قلت مرارا، في سبيل إقناع الرفاق بانتهاج خط معتدل، بأن الرئيس السينغالي السابق، الأستاذ عبد الله واد، عارض الأنظمة على مدى 26 سنة دخل خلالها السجن 4 مرات ودخل خلالها الحكومة 4 مرات قبل أن يصل مقاليد السلطة. لقد فهم عبد الله واد، وهو أكثر رؤساء العالم شهادات عبر كل الأزمنة، أن المشروع السياسي مرن بطبيعته، فإن كان تقدمه مربوطا، تحت ظرف ما، بالقرب من النظام فإن على صاحب المشروع أن يكون قريبا من النظام أو جزءا منه لتنفيذ مشروعه أو بعضه من داخل السلطة، ولا عيب في ذلك. وإن كان تقدم مشروعه السياسي مربوطا، في فترة معينة، بالبعد من النظام توجب الابتعاد منه وحتى دخول السجن من أجله.
إخوتي في المعارضة والمنتدى، إن ما تطالب به الأحزاب عادة في الديمقراطيات هو حرية المسار وشفافيته واحترام بنود الدساتير فيما يتعلق بالآليات والمأموريات، ولا يهم من ستفرزه تلك الحرية والشفافية لأنه مرتبط بوزن المرشحين وقدرتهم على التعبئة والمنافسة وملاءمة برامجهم مع مشاغل وهموم الناخبين. في هذا الصدد قلت لكم أنه سيكون على أحزاب المعارضة أن تجعل برامجها مقنعة وتجعل مرشحيها مقنعين وقادرين على دخول حلبة التنافس بوزنهم ومشاريعهم إذا كانت بالفعل تتوق إلى التناوب، فالنخبة الواعية بالتحديات لابد أنها تستوعب أن صناديق الاقتراع هي الفيصل، وليس الشارع ولا الانقلابات. إذن مطلب التناوب لا يكون وجيها إلا في حالة محاولة المساس بعدد المأموريات المحدد دستوريا، أما خارج ذلك فالمطلب الوجيه يكمن في السعي لانتخابات حرة وشفافة تتساوى فيها الحظوظ، والابتعاد عن استخدام وسائل الدولة، والابتعاد عن تدخل وتأثير الإدارة. فإذا تمخض مثل هذا المسار عن التناوب فبها ونعمة، وإلا فقد تمخض -على كل حال- عن سلطة شرعية وأشخاص شرعيين. وعكسا للانتخابات التي إما تقاطعها المعارضة وإما تشارك فيها دون الاعتراف بنتائجها، فإن مثل هذه الانتخابات، التي حددنا ملامحها في الأسطر السابقة، يكون الفوز فيها للبلاد كلها وللتعددية بصفة عامة لأن كل الأطياف السياسية ستعترف بشرعية الفائز. فالتناوب لا يعني أن يغادر هؤلاء ويحل محلهم أولئك. فالقضية تتعلق بلعبة ديمقراطية إذا توفرت فيها الحرية والشفافية والنزاهة وحياد الإدارة فإن أي شخص تفرزه صناديق الاقتراع يكون، في هذه الحالة، محل ترحاب. صحيح أن بعض قادة المنتدى لم يتفهموا هذا المسعى، وقد واجهتهم حين ذاك بالحجج الدامغة، معتبرا أن عقدة البعض من الحوار مع النظام، باعتبار ذلك خيانة للمعارضة، لست من ضحاياها الكثيرين، فالمعارض العقلاني، الذي يحكمه منطق الواقع، هو من يثق في نفسه وينقاد لعقله وليس لعاطفته وخيالاته، وهو من يعرف أنه لا ضرر في أن يناقش ويحاور ويتعاطى. لقد وصفني، حينها، بعض قادة المعارضة بـ”المهرول”، قائلين ما مضمونه أن “من ينتقد المعارضة غير معارض”. لكنني كنت، أمام مثل تلك الاتهامات، صبورا لأنني لا أملك عقدة من ذلك القبيل. فقد قلت لهم، بحضور الجميع: “إنني كنت، على طول مساري، على نفس الخط ونفس المنهج مع ما يتطلب ذلك من جراءة واندفاع تارة، لكنني، عكسا لكل واحد منكم، لم أتعامل قط مع أي نظام، فجميعكم كنتم ضمن حكومات وأنظمة موريتانية، ولا يعني ذلك أن مساندة الأنظمة تعد عيبا، فهي مسألة تعتبر، بالنسبة لي، عادية جدا، فرجال السياسة إذا وجدوا فرصا يمكنها أن تقدم مشاريعهم يصطفون مع النظام ولو مرحليا. والحقيقة أنني كنت دائما منسجما مع نفس الأفكار التي ما زلت أدافع عنها دون أن تكون موجهة ضد أي شخص وإنما هي طموح للبلاد.. وبالتالي ليست هناك دروس ديمقراطية أنتظرها من أي أحد منكم”.
إن أحزاب المعارضة تعاني من معوقات تعد من بين الأسباب الرئيسية لفشلها. فهي تكره النقد وترفض تقبله. فكل من أراد أن يتكلم عن حزبه، داخل مقره أو خارجه، في اجتماع حزبي أو خارجه، لابد أن يبني تقييماته على المجاملة المفرطة بحيث ينعدم التشخيص الموضوعي الصريح، وبالتالي لا يجد الحزب سبيلا إلى معالجة نواقصه. ألا نرى أحزابا معارضة تسمح لنفسها بوصف الأنظمة بعصابات التلصص والحيف والتعسف دون أن تسمح لأفرادها بإبداء آرائهم حولها هي نفسها. مما شكل معوقا حقيقيا أمام تطوير خطابها وتحسين أدائها، كما حال دون أن تكون فعالة في التغيير.
إذن تكمن مشكلة أحزاب المعارضة في غياب النقد الذاتي والنقد البيني، فلا وجود لتيارات وتجاذبات وأفكار متشعبة ومتناقضة داخل الحزب تفضي إلى زيادة احتمال استمراريته، فالأحزاب تعيش وتنمو بالنقاشات والانتقادات التي تمكن من التجديد وتحسين الأداء ومواكبة التطورات. وإذا كانت أحزاب الموالاة تبالغ في تمجيد الأنظمة لدرجة تبارك معها حتى انتهاك الحقوق والتلاعب بالثروة، فإن أحزاب المعارضة تبالغ في بغض الأنظمة لدرجة تبارك معها وتتمنى وتطالب وتلوح وتهيئ للانقلابات العسكرية دون أي تفكير في عواقب ذلك وما يترتب عنه من تراجع إلى الوراء وهزات قاتلة للاقتصاد وللاستقرار. مثل هذه الأحزاب يتناسى أن الانقلابات هي أسوأ الحلول لأنها تعيدنا للمربع الأول، كما تعيدنا لدوامات الفترات الانتقالية والأيام التشاورية التي لا تنتهي إلا لتبدأ مجددا ضمن حلقة مفرغة تدور داخلها الأزمات باستمرار.
إخوتي الأفاضل، لقد نبهت المعارضة مرارا على أنه عليها أن تسعى لجعل أحزابها أحزاب فكر وبرنامج وأحزاب رؤية وخطط ومحاسبة وقدرة على التصويب والتصحيح والنقد الذاتي وعزل القيادات -ديمقراطيا- إن تبين عجزها عن تحمل مسؤوليتها ولعب الدور المنوط بها، وأن تكون محل نقاش دائم و تصادم بين الأفكار.
كما أوضحت أكثر من مرة أنه يتوجب على الطبقة السياسية أن تطلق نقاشا جادا حول أية ديمقراطية نريد، وأية ديمقراطية تصلح للمرحلة، وأي مشروع يمكن أن يكون جامعًا للموريتانيين مانعًا لتفككهم، مؤكدا للجميع أن الخطاب السياسي المجدي نفعًا يجب أن يتوجه إلى توعية المواطنين، فتوعية المواطنين بمواطنتهم، بواجباتهم، بحقوقهم، بدورهم، لا تتم إلا بالخطاب السياسي الملتزم والهادف. والخطاب السياسي المجدي يتوجه دائما نحو التقارب والتعاطي من أجل استقرار البلاد بغية خلق جو قابل للتنمية.
وكم مرة نبهت إلى أن أحزاب المعارضة بحاجة إلى القيام بتربية سياسية غير التربية الحالية السلبية في غالبيتها، فهي تربية منفرة، توحي للمواطن بأنه يعيش جوا مظلما غامضا قد يتفجر في أي لحظة، وأن آفاق الحل مسدودة، فلا يكون أمامه إلا التقوقع على نفسه وفقدان الأمل في أحزابه وفي طبقته السياسية وفي مستقبله وفي بلاده برمتها.
إن أي توجه حزبي يحمل شحنة من العنف أو تخويف المواطنين من بعضهم البعض، وأي نهج حزبي يرسم لوحة قاتمة للمستقبل، لا يمكن وصفه بـ”الخطاب السياسي”.
كذلك فإن المعارضة لا تأخذ الدروس من أخطائها ومن ماضيها المتعثر. فتارة ترى شعبية حزب معين في الديمقراطيات الأجنبية تتراجع بشكل قاتل، لكن أعضاءه يجتمعون ويتباحثون ويتصارحون ويعترفون بالخلل، ومن ثم يقومون بما من شأنه النهوض بحزبهم مجددا. هذا الاعتراف بالخطإ والتصريح بأن الحزب أخذ الدرس من تقهقره، يجب أن يكون علنا وأمام الملإ، وإلا فإن الناخب الذي وجه إليه الصفعة السياسية لن يهتم بالحزب مستقبلا، لأن الحزب لم يبعث برسالة إليه مفادها أنه فهم الدرس. إن معضلة أحزاب المعارضة فينا أنها لا تقبل ولا تتقبل أي نوع من النقد الموجه لمسارها.
عندما كنت رئيسا لمنتدى المعارضة تقدمت بمآخذ على بعض المسلكيات، فقيل لي ما يفهم منه: “يجب أن تنتقد النظام وأن تجنب المعارضة سهام نقدك”. أي تناقض هذا؟.. كيف لا نتوجه بالنقد لمؤسساتنا من أجل إصلاح أعطابها ومعالجة أمراضها وتحسين أدائها؟.
إخوتي الأكارم، تدركون جميعكم مدى الجمود الفكري الذي تعاني منه معارضتنا ورفضها أو عجزها عن تقديم أي علاج له. هل رأى أي أحد من المراقبين للشأن السياسي استراتيجيات على أساسها تقدمت المعارضة للناخب الموريتاني بتصور، أو اقترحت للجماهير مشروعا تضع له الآليات الكفيلة بإنجاحه لكي يشكل بديلا مقنعا؟. لا شك أن مثل هذه الاستراتيجية ومثل هذا التصور لن يريا النور قبل الاعتراف بالأخطاء بغية التغلب عليها، والاعتراف بالأخطاء، في ما يبدو، مستحيل بالنسبة لمعارضتنا.
لقد كان على أحزاب المعارضة أن تنطلق من أن البلد هش بفعل التعدد العرقي وانتشار الفئات وتحكم الطبقات، كما أن أوضاعه، على طول 2300 كلم، غير آمنة وغير مستقرة بفعل غياب أي جبل أو غابة أو نهر، وبالتالي فهي منطقة مفتوحة تستطيع صب حممها علينا في أي وقت، مما يجعل المعارضة مسؤولة عن تأمين الخطاب وعقلنته حتى لا يعمل على تفجير الوضع وحتى يحيي في الناس روح الوطنية وروح الدفاع عن الحوزة وعن الوجود.
كم مرة عبرت لرفاقي في قيادة المنتدى عن أهمية النظر بعين فاحصة وثاقبة إلى هشاشة البلد، وأنه يواجه الكثير من التحديات، وأنه يوجد في المنطقة الإفريقية الأكثر توترا حاليا، كما أنه يواجه تحديات داخلية كثيرة تغذيها تارة نخبنا، هذا مع الكثير من فرص الرقي والازدهار إذا هيأنا التربة لها في جو يطبعه السلم والمؤاخاة والاعتدال والوسطية. إذن بالنسبة لي، فإن كل عمل سياسي يجب أن ينطلق من قراءة متأنية للواقع لكي تتكاتف جميع الأحزاب، مهما كانت مواقعها في الساحة السياسية، لحماية بلادنا من التحديات التي تواجهها ولكي تنتفع من الفرص الاقتصادية الكبيرة المتاحة. وفي هذا الصدد يجب أن نستخلص الدروس من البلدان التي يستقبل رؤساؤها قادة المعارضة عندما يتعلق الأمر بمواجهة مشاكل عويصة أو تحديات خطيرة على مستقبل بلدانهم. وهكذا يتم التشاور بينهم حول مصلحة البلاد التي يتقاسمون جميعا. هذه الفكرة يجب على الأحزاب، في سبيل النهوض بدورها، أن تعمل على ترسيخها في الثقافة السياسية الوطنية بغية القضاء على الفكرة الرائجة في موريتانيا والتي بموجبها لا تكون المعارضة معارضة إلا إذا نصّبت نفسها عدوا لدودا للنظام، ولا تكون الموالاة موالاة إلا إذا ناصبت المعارضة كل عداء. وهذا يعني أن من بيننا من لم يفهموا أي شيء في العمل السياسي النظيف لأن هناك أمور، مهما كان مستوى الراديكالية والتنافر، تظل عاملا يجمع الكل في سبيل حماية الوطن ومن أجل مصلحة الشعب. فمن منا لا يلاحظ أن المعارضة تارة تضرب عرض الحائط بفكرة أو بعمل لمجرد أنه صادر من النظام دون النظر إلى جدوائيته وصدقيته، وأن النظام يلطخ فكرة أو عملا لمجرد أنه صادر من المعارضة دون النظر إلى فاعليته ومصداقيته.
إخوتي الأعزاء، لا شك أن موريتانيا مقبلة على الكثير من الخيرات، ويجب أن لا يكون في الأمر ما يدعو للاحتقان والتفكك، بل يجب أن يكون ذلك مدعاة للمصارحة والمصالحة والتهدئة التي تقودها وترعاها وتـُـنـَـظــّـر لها الأحزاب في المعارضة وفي الموالاة. إن من واجب الأحزاب أن تقيم ندوات توضح من خلالها أن بناء موريتانيا، في مثل هذه الظروف المتسمة بتدفق الغاز بشكل كبير جدا وبالتالي تدفق الأموال الطائلة، لا يمكن إلا من خلال أبنائها ولأبنائها وبأبنائها كلهم: لا يوجد من هم صالحون لتلك المهمة ومن هم عاجزون عنها. الكل مهيأ للعب دور إيجابي في بناء موريتانيا الغد، خاصة إذا اعتبر الجميع أن هناك تحديات يجب رفعها وهناك فرص كبيرة يجب استثمارها. لا يقتصر الصالحون على المعارضة ولا يقتصر الطالحون على النظام. إن في الجانبين صالحون وطالحون، وإن على الصالحين في الجانبين أن يعملوا كل ما في وسعهم لتجنيب البلاد ويلات الدمار والتفكك والاقتتال التي تنتج عادة عن نزوات الصراع على الثروات الباطنية المدرة. إن لدى السياسيين اليوم فرصتهم ليكونوا حاضرين في المشهد كله بحيث يسعون إلى إقناع الموريتانيين بأن يجعلوا من الذهب ومن النفط ومن الغاز (البالغ 25 مليار متر مكعب) فرصة حقيقية لخلق دولة عظيمة، بدلا من أن تكون تلك الخيرات عامل تفرقة وتشتت. هذا هو الدور الحزبي النبيل الذي يعيد إلى الأحزاب، في المعارضة والموالاة، ما افتقدته من احترام الجمهور.
إخوتي الأعزاء، لقد تحاورت الأحزاب في بعض الديمقراطيات وتوصلت إلى أن مصير البلد وقضاياه الاستراتيجية ووحدته تمثل خطوطا حمراء يجب تحاشيها، على أن يتنافس المتنافسون في البقية. وهكذا تم الاتفاق بين تلك الأحزاب على إخراج المصالح العليا للبد وقضاياه الاستراتيجية من المزايدات السياسية ومن المشاحنات الحزبية دون أن يعني ذلك عدم إمكانية وجود تباين في رؤية الأحزاب. لأن مثل هذا النهج يدخل في إطار صيانة البلد، وصيانة البلد ليست مسؤولية طرف سياسي عن طرف آخر، وليست مرتبطة بشخص بدلا من شخص آخر.
إنه الحوار الذي يجب السعي إليه في سبيل النهوض بالديمقراطية. ذلك الحوار الضروري بين الأحزاب السياسية لتعرف ما عليها فعله وما عليها تركه وما تقتضيه الأخلاق السياسية وما تمجّه، قبل الدخول في أي حوار سياسي شامل حول اللعبة الديمقراطية.
لقد رأى السياسيون التونسيون أن عليهم أن يكونوا شفافين في رسم الصورة للشعب التونسي، دون أن تكون الصورة سوداء إلى درجة قتل الأمل في النفوس. في هذا المضمار تقول أحزاب المعارضة التونسية: “يجب أن نصارح الشعب بالأزمة القائمة، لكن ليس بصورة سوداوية، لأنه من واجبنا أن نرفع معنوياته وأن لا نبعث له برسائل إحباط”. إنه الطرح الذي تحتاج المعارضة فينا إلى فهمه والاقتباس منه في هذه المرحلة من أجل نشر رسالة طمأنة وترك بصيص أمل لدى الشعب.
إن على أحزاب المعارضة أن تعمل على التهدئة وتنظيف الميدان لكي تؤسس لمرحلة جديدة ومقبولة ونافعة. يقول المفكر الإسلامي راشد الغنوشي، معلقا على حملة قادتها بعض الجهات ضد الرئيس الباجي قائد السبسي رغم معارضته له: “إني أعبر عن امتعاضي الشديد من الحملة التي وجهت للرئيس ولعائلته، فالمس برئيس الدولة مس بالرمز الأعلى للبلد، وهو يعبر عن أزمة أخلاقية”.
إن من حقنا أن نختلف في الطروحات والآراء، لكن ليس من حقنا أن نعمد إلى الشتم والمساس بشرف الطرف الآخر.
إن خطابا مبنيا على القشور، مثل “هو سيبقى، هو سيرحل” التي قبعنا داخلها لأشهر أو لسنوات، يظل خطابا عقيما لا يقدم ولا يؤخر ولا يضيف أي شيء للديمقراطية ولا حتى لسمعة الأحزاب. إن على الأحزاب أن تسمو على السفاسف وتعلو بمستوى أفكارها إلى ما هو أصلح وأجدى لمستقبل البلاد. إن على الأحزاب أن تناضل من أجل سيادة القانون، وأن تناضل من أجل التفاهم على أحسن الصيغ لتمتين عرى العدالة ونشر المساواة والأخوة بين شرائح وجهات وألوان الشعب، وأن لا تحشر نضالها في الأجندات الانتخابية وحدها. فسيادة القانون هي الكفيلة بنهوض الشعب، والشعب هو من يعطي للأحزاب شرعيتها وقوتها.
وكخلاصة، إخوتي الأفاضل، فإن من واجب النخبة السياسية أن تقوم بمراجعة القواعد العامة التي تسير عليها المعارضة، تماما مثلما تجب مراجعة القواعد العامة لديمقراطيتنا لنعرف أي معارضة تصلح لنا وأي ديمقراطية تناسبنا انطلاقا من ثوابتنا وظروفنا الأمنية والإقليمية والعرقية والفئوية، وأي علاقة يجب أن تربط النظام بالمعارضة، وأي استراتيجية سياسية يجب وضعها للاتفاق حول الأهم المتمثل في الحفاظ على البلد.
إننا بحاجة ماسة إلى التفكير في الأسس التي تقوم عليها المعارضة وتلك التي تقوم عليها الديمقراطية التي أجدني، بعد البحث والتقصي والتفكير، مقتنعا بأنها لا تستقيم إلا بالتدرج كما عرفته ديمقراطيات الغرب التي لم تكتمل دساتيرها دفعة واحدة ولم تكتمل مؤسساتها دفعة واحدة، بل إن بعض التحسينات أمضت عدة عقود قبل إنجازها على ضوء المستجدات ومستوى الوعي. وحتى اليوم فإننا نلاحظ أن من بين مطالب “السترات الصفراء” في فرنسا (التي تعد مرجعا في الديمقراطيات العتيدة) إضافة نوع من التمثيل الشعبوي على مستوى القوانين والهيئات بغية تحسين أدائها وتمكينها من حمل هموم الشرائح الأكثر فقرا.
إخوتي في المنتدى، مجمل القول أنني عارضت النظام وقارعته لأن لدي مقاربة طموحة للعدالة ودولة القانون والحرية وفصل السلطات وحقوق الانسان، وسأبقى على نفس النهج، وأواصل النضال من أجله، لأنني ما زلت وسأبقى متمسكا بنفس القناعات ومؤمنا بنفس الأسلوب.
كما أنني أؤكد هنا أنني أحترم قادة المعارضة، فردا فردا، وأثمن عاليا كل ما حاولنا إنجازه معا. وإنني لعلى يقين، لا يخامره أدنى شك، أن في المعارضة رجال ونساء خيّرون ناضلوا بإخلاص وقدموا تضحيات جساما من أجل الإصلاح. لكنني على العموم لست راض عن أداء المعارضة في كل تفاصيله، ولست مقتنعا بأسلوبها، كما أنني لا أومن بفهم زعاماتها الجامد للديمقراطية والتناوب، وبالتالي فإنني أنسحب، بكل بساطة، من مسار منتداها لأنه لا يمكنني المضي في أي توجه لا أثق فيه، خاصة إذا كان عبثيا وغير جاد. إذن بما أن قادة المعارضة رفضوا الاستماع لآرائي أو أخذها في الحسبان، وبما أنهم يرفضون إجراء تحسينات على أسلوب المعارضة وفهمها للمرحلة، فقد قررت عدم المشاركة في أي نشاط سياسي لا يتماشى مع قناعاتي.
والله أرجو التوفيق
أحمد سالم ولد بوحبيني