2- لنرتفع عاليا
إن إدريس ديبي الذي هو محارب حقيقي، ولد وترعرع في جحيم الحرب ولم يعرف سنة واحدة هادئة، وهو الذي تشكل فرقعة المدافع المعادية موسيقاه الليلية الاعتيادية، اعترف بالواقع صراحة بشكل علني. ارتمى بكل ثقله في المعركة، كما تعود على ذلك أبناء الشعب التشادي الرائع، ولكن بعد ان توغل في الخطر ترك هو ومشاكله الاقتصادية ومعاناة شعب لم تكن الطبيعة عادلة معه.
هل بالإمكان فعل شيء في كفاح الإرهاب أحسن مما فعل إدريس ديبي؟ أبدأ !
المتحكمون في الرقصة المعادية للإرهاب لم يهتدوا إلى حد الساعة للصيغة والطريقة لحصر الحريق والحيلولة دون إنتشاره، وفي اضطرابهم يريدون أن يلقوا الغاز القابل للاشتعال لإخماد النار.
إخلاء غرب الصحراء من الجنود سيكون الطامة الكبرى، سيصبح الإرهاب لا رادع له، يصول ويجول على طول العمود الفقري للصحراء الكبرى من بيلمة إلى الداخلة .
بعد خمس سنوات من الجهود من أجل فرض السلم في الصحراء الكبرى و”الساحل” أصبح من يتزعمون تلك الحملة مثل من يجري وراء الطيور أو وراء حريق مراعٍ لسانه الأمامي المدمر لايمكن اللحاق به.
كان من المنطقي، منذ البداية، تكوين منطقتي أمن واٍستقرار، نقطتي ارتكاز يوثق بهما، على طرفي قوس الحريق. فمن بين جميع الدول المتماسة مع هذا البطن الرخو المجتاح من الإرهاب فإن تشاد وموريتانيا وحدهما قابلتان للتأمين وأن تصبحا سدودا آمنة، ليس فقط لأنهما دولتان صحراويتان بإمتياز، مع أن هذه المعطاة تأتي في مقدمة الإعتبارات، ولكن لأنهما بلدان عرفا في فترة السبعينات حروبا داخلية.
في الواقع، في ما يخص موريتانيا، السلاح لم يطرح من 1900. فبعد السيطرة الفرنسية عام 1934، بقيت جيوب تمرد سماها أهل الحوض : “أهل الكدية”. في الشمال جَند مايُعرف بجيش التحرير الكثير من الناس مابين سنة 1956 و1960 وامتد الأمر بعد ذلك إلى الحوض ولم تنته تبعاته إلا عام 1963.
تأمين تشاد بسيط ، واضح، هو اقتصادي لاغير.
تأمين موريتانيا هو أعقَد وأصعب بالنسبة للقوى الدولية النافذة. فهو يتطلب مراجعة ذهنية، وتغيير في البرمجة بلغة الكومبيوتر. لأنهم لم يفهموا أن موريتانيا وأمنها وسلمها مرتبط عضويا بالصحراء الغربية (الاسبانية سابقا). من يريد أن يفرق بين موريتانيا والصحراء الغربية، في التحليل، هو واهم. من يريد أن يؤمن موريتانيا ويطمئن سكانها عليه أن يتوجه نحو حل حقيقي لمشكل الصحراء، أي حلا يرضي سكانها.
بدون ذلك، المضي من أجل الموت في بامكو أو موبتي هو تهور لايفهم وخفة لاتقبل. إذا كان ليس عندنا مانقدمه للموريتانيين في سنة جفاف شهباء سوى الموت خارج وطنهم، فإنه تجاوز لكل الخطوط التي يمكن تصورها. وأي حرب سيقام بها في فترة أزمة اقتصادية حادة والموريتانيون ممزقون داخليا وقلقون على مستقبلهم، والبلد يغلي مثل مرجل ساحرة؟ فلايمكن تصور دخول حرب، إذا كنا مازلنا نتمتع بحبة دراية.
لا شك أن لدينا مؤسسة عسكرية تستحق التقدير ولكن إذا كانت لدينا درة جميلة فهذا لا يعني أن نجعل منها كرة مدفع عند أول فرصة. علينا أن لا ننسى أن الجيش هو العمود الفقري للبلد.
البلد الذي كان في وضع غير مرضي نتيجة لتبذير وتخبط لايصدق، زُجً به، في السنة الماضية في ارتباك جنوني بمفعول مسلسل لايدركه العقل، والذي كانت أولى طلقاته صفعة التعديل الدستوري، الذي رفضه البرلمان ولكنه مع ذلك فُرض. ثم تلت ذلك تصرفات طائشة تبرهن ليس على التبصر وإنما على التوتر والانفراد والانعزال عن الواقع، وهي أمور حذرمنها قبل 2400 سنة، توسيدود، ناهيك عن الخليفة معاوية بن ابي سفيان.
تمت متابعة شيوخ في البرلمان غير طيعين أمام المحاكم وزج بأحدهم دون أدنى حد من اللباقة، في مايقال، في السجن لمدة عام، كما تمت متابعة صحفيين ونقابيين أمام المحاكم، ولكن اذا سجن البرلمانيون فإن أولئك عليهم أن يرضوا بمصيرهم. إذا ضرب الامام خاف المؤذن.
رجل الاعمال محمد ولد بوعماتو خصصت له نصوص على مقاسه، حسب الجميع، هدفها تعطيل مؤسساته. مايعاب عليه يصعب في الواقع إدراكه بالرغم من المضامير والتصاريح الهوجاء غير المقنعة. المهم أن أي أحد لايصدق الأطروحة الرسمية. عند ما تكون المسألة لا يصدقها أحد يصبح التمسك بها عديم الجدوى، بل حوشب أو ثقل إضافي معطِل يجره الانسان. أما سجن برام ولد الداه ولداعبيد فتم أخيرا، وهو غريب مثل ماسبقه. أعتقل عشية انتخابات عامة هو مرشح فيها. كما أنه لم يحكم عليه فتم انتخابه كنائب في البرلمان كما كان متوقعا. إذاً هو الآن برلماني جديد في السجن وهو مؤشر سيئ للغاية بالنسبة لديمقراطية مازالت تبحث عن التزكية. السبب الحقيقي الكامن وراء سجن برام لا يعرفه أحد.
فهل سببه تعارض طبائع أم مجرد إصرار على الخطإ وتصلب في الرأي؟ هل برام يفسد لعبة أم مشروعا غير معلن؟ لم يبق للجميع إلا التكهنات في موضوع يرجع إلى “حاجة في نفس يعقوب”.
بعد التعديل الدستوري الجبري، رد السكان بسخرية رفيعة الذوق. عندما شُرع في الانتساب للحزب الحاكم، فانتسب إليه مليون ومائتا ألف مواطن بالغ يحملون بطاقات تعريفهم المؤمنة، في الوقت الذي يهاجم فيه النظام بشكل شبه جماعي بكلام مؤذٍ ومُحقر. كما ان السخرية لم تفهم بل فهمت على عكس معناها ـــ على انها برهان ساطع على الشعبيةــــ توجه النظام، على دق الطبول ونبرة الحماسة،للاقتراع يوم فاتح سبتمبر 2018، من أجل تعيين برلمان ومجالس بلدية وجهوية.
وبهذه المناسبة أوضح الشعب بسخرية أكثر وقاحة فعلته الأولى : فقط حوالي ثمُن المنتسببن الى الحزب الحاكم صوتوا له، وهذا الثُمن متكون أساسا من مناصري المرشحين الشخصيين.
السخرية لم تتوقف عند هذا الحد لأنه ليس هناك أحد يريد قراءة الرسالة المكتوبة بخط مدقة المهراس.
في المهرجان الافتتاحي والمهرجان الختامي لحملة الحزب الحاكم في انواكشوط الإقبال كان يفوق مجموع الأصوات التي حصل عليها هذاالحزب في مجموع الولايات بما فيها انواكشوط.
يجب الاعتراف أن فهم هذا الوضع غير سهل. فقط التجارب الماضية هي التي بوسعها أن تنيرنا.
هناك قاعدة : في بلد تدور فيه كل الأمور بما فيها الأعمال حول الدولة، والعاطلون لايمكن حصرهم، و”الاذكياء” كثيرون، بلد الشفافية فيه نادرة، بل ومذمومة، هي أن المصفقين والسابحين في المياه العكرة، الذين يعدون بالآلاف، لا يمسكون برأس الموكب الرسمي إلا في وقت متأخر، عندما يكون الوضع صعبا وبعد ما درسوا بعناية فائقة عقلية وميول وشخصية ضحيتهم. في هذه المرحلة ينقضون عليه ويحولونه لعبة بأيديهم. بالمقابل المسؤول السامي تحصل عنده القناعة أنه إذا تخلص من هذه الرفقة سيصبح معزولا، متوحدا، وبالعكس فإن معايشة جماعة مبتسمة على الدوام، حفية بإفراط، تداعب بكلام لطيف ينفذ الى الحواس باستمرار، وإذا تطلب الأمر فإن أياديها سائلة بالهدايا الثمينة، لا شك أن جوا كهذا مريح لذيذ وجذاب.
إن المختار ولد داداه، نفسه، وهو رجل متزن وله تجربة واسعة في العلاقات البشرية، اقتيد ألى مأزق، ناهيك عن من خلفوه في المنصب.
عندما يفلس معبودها بالأمس فان هذه الطبقة التي يصعب تمييزها و تصف نفسها بالسياسية، تنصرف بلباقة وتفقد وكأنها لم توجد. لا أحد من رؤسائنا المبجلين – وكانوا جميعا مبجلين الى آخر لحظة – استحق أبسط تضامن، أبسط مظاهرة مساندة، بعد سقوطه.
في المسلسل الآني، المخالف للعقل، يعتبر رجل الشارع بقوة أن قادتنا يعتمدون أساسا، في المرحلة الحالية من أجل كسر رقبة الدستور، من جديد، والتورط، دون منطق وبغياب أدنى سند حقيقي، في مأمورية ثالثة، أو مأمورية مقنعة، يعتبر رجل الشارع أنهم يعتمدون على دولة أجنبية حامية، مقابل التدخل العسكري في مالي .
إنها ستكون زيادة في المصيبة. ليست هناك قوة أجنبية، في عالم اليوم، بمقدورها أن تفرض نظاما ضد إرادة شعبه، وإذا حاولت فإنها ستفقد نهائيا مصداقيتها.
وإضافة إلى ذلك فإن نظاما معزولا إلى درجة البحث عن سند أجنبي سيُرفض من الجميع ويفقد شرعيته، ويجعل آخر الوطنيين الصامتين على مضض، يقف ضده، ناهيك عن أولئك الذين نفضوا أيديهم من النظام ولكنهم مازالوا متعلقين بتلمس حل مُشَرف للبلد.
إن الزيغ ورفض الواقع هو مصدر الاستياء والشعور بالحرمان، وهو الذي يقود الناس للتطرف والعصيان والإرهاب. كل مايتكشف يوما بعد يوم لا يبعث على التفاؤل ويجب أن نعترف أن البلد أصبح يشبه موكبا يسير بسرعة فائقة في الظلام.
لا، بدلا من المغامرة، مازال بوسعنا أن نعود إلى الرشد. ليس من حقنا أن نفسد المستقبل، واجبنا أن نبنيه. مازال بوسعنا أن ننزع فتيل الأزمة، أزمة لن يستفيد منها أحد، وهي تشبه القنبلة الموقوتة. بإمكاننا أن نصنع السلم بدلا من الحرب. أي سلم؟ السلم الداخلي الذي هو غاية في حد ذاته، والذي يُمَكن – إذا تطلب الأمر- من خوض الحرب .
السلم يبدأ بالتهدئة. الناس ينحنون بطيبة خاطر لمن يتواضع ويخفف من غروره.
التهدئة الوحيدة المقنعة وذات المعنى والتي بوسعها أن تغير المعطيات الحالية، هي أن نتوجه بحزم، بكل نزاهة وبكل صدق، نحو التناوب الديمقراطي، في منظور الانتخابات الرئاسية المقبلة. إنه موقف لابديل عنه وهو المنقذ للجميع. عند ذلك سيحصل إجماع وطني غاب منذ زمن طويل، ويشعر الجميع بالفخر أن المصلحة العامة تصدرت جميع المصالح. لن يكون هناك من بإمكانه أن يعترض على هذا التوجه، دون أن يستحق مصير المنبوذ والمعزول .
عندما يتوقف النظام عن التمسك بالسلطة بعد الفترة الدستورية فإنه سيبقى بدون أعداء، بدون فرض مرشح فإن اعتباره سيزداد. عندما لا يظهر بالبحث عن مصالح أنانية فإن تقديره سيزداد. عندما يرتفع في العلو من أجل ضمان وتسهيل مايريده الشعب فقط، فإنه سيرقى الى مستوى العزة والتقدير من الجميع.
بدون هذا فإن الجميع سيعترف أنه لم يبق شيء يُعمل، وأننا نسير في طريق مسدود. وأننا بكل أسف أصبحنا مرغمين على تبني خلاصة الفيلسوف ميشيل أنفري الذي سُئل أخيرا ماهي النصائح التي يمكن تقديمها الى شباب اليوم؟ فرد كما يلي ” الباخرة تغرق. عليكم أن تحافظوا على وقاركم. موتوا وأنتم واقفون” .
بقلم محمد يحظيه ولد ابريد الليل