التطرف الغربي يواجه تطرفا في المسلمين

هرول قادة من العالم العربي واﻻفريقي الى عاصمة اﻻضواء باريز ، وشدوا الرحال الى ساحتي الجمهورية واﻻمة ، تقاطر و تهافت رسمي كبير لم يكن هذه المرة لدوافع اﻻستشفاء ، وﻻ لتخليد احتفاﻻت رأس السنة ، و ليس هروبا عن لهيب اﻻوطان و غليانها المستعر ، وﻻ تغذية لحساباتهم البنكية في فرنسا ، وﻻ تلمسا لسحميات النهود ذوات الثغور الوردية الحسناء ، و ليس طلبا لليالي السكر الحمراء و ﻻ لدفن هموم اوطانهم في ضجيج مراقصها ، وليس ﻷي من تلك اﻻسباب التافهة التي يركبون عادة اﻻجواء و يمخرون الفضاء جريا وراءها ، إنهم ابناء باريز و يعرفون من طرقها وأزقتها أكثر مما يعرفون من اوطانهم ، ويعرفون سحنتها في كل فصول العام ، يعرفون واجهات الماخورات ودور القمار والسكر والزنى ، و يعرفون مقار اﻻمن و المصارف و المخابرات ، وعناوين اﻷوصياء ومكاتب تسديد أجور المجندين و العمﻻء و أسياد طبخ المؤامرات ، لكنهم اﻵن يدخلون فرنسا لسبب جديد ،
إن يد اﻻرهاب تعبث في كل مكان ، وتنهش جغرافية الجسم العربي ، وتمزق الوطن الواحد اشﻻءا و قطعا شتى ، وسيفه مصلت على الرقاب ، ودخانه يتصاعد في عموم افريقيا ، و في خاصرتها تثخن سكاكين اﻻرهاب و تصول وتجول ، وتحكم قبضته أحزمة المواطنين في كﻻ العالمين العربي واﻻفريقي ، ﻻ يكاد ينقضي يوم واحد على العرب وافريقيا إﻻ و تمضي قوافل من الشهداء في رحلتها اﻻبدية مودعة الحياة ، ﻻ يدري قاتلها فيما قتلها وﻻ هي فيما قتلت ، لم يذرف عليهم قادتهم سوى دموع التماسيح ، ولم ينزلوا من ماء العيون إﻻ النزر اليسير ، وبجرعة تتناسب مع حفظ الكراسي وحمايتها من فورة غضب الداخل ، و كأن اﻻحداث التي تدور في فلسطين واﻻردن وتونس وفي مالي النيجر وفي المنطقتين عموما تجري في عوالم أخرى ﻻ يجمعهم بها سوى ملك الله .
إن ضحايا التطرف و اﻻرهاب في العالمين العربي و اﻻفريقي مدنيون ومسالمون ، ﻻتستباح دماؤهم بأي تأويل و ﻻتفسير مهما كانت درجة قصوره و انعدام مسوغه ، لم يؤذوا المشاعر يوما ولم يعتدوا على المقدسات ، لم يحملوا النبال وﻻ اﻻقﻻم ، لم يضربوا بالسيوف رأسا وﻻ بالكﻻم وجدانا ، يموتون في اﻻنفجارات و في الحرائق وبمدافع القناصين ، يموتون في المكاتب والدكاكين وفي الحقول واﻻوراش ، ضحايا لصناع التطرف و هواة التخريب واﻻرهاب ، لم تودعهم مسؤولية رعاتهم و لم تؤبنهم انسانية العالم ، أليس العرب واﻻفارقة من “جنس ” اﻻنسان الغربي؟ ، أليست الحقوق والحريات لﻹنسان أيا كان بغض النظر عن لونه ولسانه و دمه ودينه ؟ ألم تضرب همجية اﻻرهاب سبعا وثﻻثين شخصا بكلية عسكرية في اليمن تزامنا في نفس اليوم مع حادثة charle hebdo ، لم يفقد اليمن فقط ساعتها مؤازرة سياسيي العالم معه في هذه المحنة الجسيمة ، بل ان اﻻعﻻم الدولي والعربي تجاهل الحدث و تركه دون ادنى تغطية ، ليس لديه وقت يومها إﻻ للتباكي على ضحايا صحيفة “شارلي ابدو ” ، وبالمنطق الحسابي الذي يحسنه تﻻميذ المدارس موت سبعة وثﻻثين أشد هوﻻ وإيﻻما من موت اثني عشر شخصا ، و الموت هو الموت سواء تم فرنسا او في اليمن ، لكن الظاهر ان العالم يبدوا في اتجاه التواضع على اعتبار اﻻنسان مجرد نقد تتفاوت قيمته تبعا لثمن عملة بلاده .
العالم يتفرج منذو أعوام على اوطان تحترق وبلدان تطوى و الناس تموت وتفنى ، لم يطأها حاكم غربي واحد تضامنا مع حقهم في الحياة والذي هو أسبق ترتيبا وأكثر قداسة من حرية التعبير ، أﻻ يعي هؤﻻء المهرولون خطورة الخفة وتعارضها مع المبادئ المتعارفة و التي تصون السيادة وتحميها ، ومع القواعد اﻻساسية في نظام العﻻقات الدولية ، وخاصة منها ” المعاملة بالمثل ” ام ان الأسرار المكبوتة بدأت تخرج عن دائرة النكران ، و يتكشف علنا أن الحكامة العربية جزء من المشروع الغربي ، وانها تساند المنتصر وتجري خلفه ، تصفق و تجسد اﻻزدواجية الكريهة التي تطفح بها مكاييل الغرب وثقافته الليبرالية ، الديموقراطية والحقوق والحريات ليست سوى مطايا وصهوات لتنفيذ اﻻجندة الغربية ، والماضي القريب حافل باﻻمثلة والنماذج السيئة ” اغراق ليبيا وسوريا والعراق واليمن في جحيم الفوضى والحروب اﻻهلية بحجة التمكين للديموقراطية والشفافية في وقت تعمل الليبرالية على حماية عروش اﻻستبداد بدعوى الخصوصيات الحضارية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ، وهو امر مشابه تماما للغش والخيانة في التعاطي مع تطهير العالم من الدمار الشامل الذي كان موجبا ﻹبادة العراق ، واسرائيل تتبجح بترسانتها النووية وتبيد الفلسطينين بطريقة فاشية وحقيرة والعالم ساكت أخرس وﻻ يبالي .
إن نفس القانون يتجدد اليوم ، قادة العالم يسجلون حضورهم بحرارة للتضامن مع فرنسا وتعزيتها في اثني عشر شخصا ماتوا برصاص قتلة متطرفين ارتكبوا جريمتهم تحت اكراه جرح عاطفي غائر من اساءات تعمدتها جريدة “شارلي ابدو” بإساءتها على المقام النبوي الشريف ، لكن المئات التي يصفيها اﻻرهاب اﻻحمر يوميا في فلسطين و ليبيا وسوريا والعراق ومصر واليمن في لعبة لم يفهموهاة، و حمم الموت المجاني التي تتقاذفها اصقاع العالم العربي عموما وافريقيا حاصدة كل يوم مئات الضحايا اﻻبرياء ﻻ تثير الشفقة على هذا اﻻنسان ، وبعض المساكين من حكام هذه البلدان المشاركين في المسيرة ، لم يكونوا يوما بمستوى حنكة هوﻻند ، ولن يستفيدوا مستقبﻻ من هذه السابقة التي تأسست حين وظفتهم فرنسا في وثبة تضامنية سعيا للكسب اﻻنتخابي ، أليسوا هم محتاجين للدعم الجماهيري في وجه المعارضات العربية واﻻفريقية ؟ أم أن هوﻻند هو الذي يملك سلطة تعيينهم وتثبيتهم بمراسيم فرنسية؟ و ارضاء وده هو السبيل اﻻوحد لحماية الكراسي ؟.
لم تكن المسيرة في مجرياتها وشعاراتها مجرد تضامن مع ضحايا العنف ، وﻻ كتابة قوية بضرب اﻻرجل على شوارع باريز تعزي في الحدث ، لقد سعى قادتها و أراد لها المنظمون أن تكون إدانة لﻻسﻻم ، و إعﻻنا دوليا للحرب عليه ، وتفويضا عربيا وافريقيا بإغراق اﻻسﻻم في تهمة التطرف واﻻرهاب التي يعز تلطيخه بها ، لقد صرح نتينياهو علنا وهو في طريقه الى المسيرة أنه ذاهب الى فرنسا للتعبير عن رفضه اﻻرهاب اﻻسﻻمي الذي يهدد العالم ، ورفعت خﻻلها شعارات معادية لﻻسﻻم ، و التزمت الصحافة الغربية بأنها ستعيد نشر الصور المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم ، والجميع يردد je suis charle مما يعني انحيازا لقصة الرسوم التي تستحضرها المخيلة وقتذاك .
سيكتب التاريخ شهادته على اولئك المنهزمين ، و سيحكم الله بالعدل على كل فعل او قول ، و سيكون لبصم هؤﻻء القادة باسم اكبر حاضنة لﻻسﻻم ، سواء من الناحية الفكرية ” تركيا ” او من الناحيتين الجغرافية والديموغرافية افريقيا والعالم العربي ، ومباركتهم لنذر الحرب التي تبرق في سماء اوربا ، سيكون له ما بعده ، و اﻻيام القادمة حبلى وستنجب ارهابا من قبيل اﻻرهاب اﻵمريكي ضد العراق ، وهكذا فإن عواصف التطرف ستظل ضاربة طالما أنها لم تواجه بالحلول المناسبة التي تجتث جذوره وتقضي على نبته ، وسيعيش التطرف لﻻسف وسينموا ويكبر مع اﻻرهاب والتطرف المضادين .
إن التطرف ظاهرة موجودة ، وخطيرة لﻻسف الشديد و على العالم ان يواجه اسبابها ويعالجها بكل جدية ، سبيﻻ لاستنبات ثقافة التعايش والتعاون واﻻحترام المتبادل بين كل طيف ومخالفيه ، ولن تفيد المقاربة اﻻمنية وحدها ، ولن يفلح التطرف المضاد في نزع الشرور المستحكم في مشاعر الناس ، والغارق في بحار الظلم والغبن والاستعﻻء ، ورغم رفضنا لﻻرهاب والتطرف ، وكرهنا الشديد لبشطه ، فإن المسيرة في سياقاتها وظروفها تشكل تطرفا و استفزازا حضاريا للعرب ولﻻفارقة وللمسلمين عموما ، فماذا سيكون عليه مثﻻ حال العربي واﻻفريقي المسلم حين يدرك أن العالم يضج و يهتز وينفر قادته خفافا وثقاﻻ حين يقتل المتطرفون اثني عشر فرنسيا ، وان البحار الجارية كل الوقت من دماء العرب واﻻفارقة لا تستحق مجرد تغطية صحفية ،شعور قد يغذي التطرف واﻻهارب ويقضي على حلم كان يلوح ويداعب خواطر الاعتداليين بأن العالم قد يفيق ويعيد للفلسطيني المظلوم أرضه ، و لكل انسان عربي مقهور كرامته و انسانيته ، و سيسمع انين المسلم المطحون و المخذول ، وسيرفع عن اﻻفارقة حكمه الجائر .
و هنيئا لكل حاكم عربي او افريقي رفض للغرب العبودية و اﻹستعﻻء ، و ضرب بالغياب عن المسيرة طغيان الغرب و خياشيم كبريائه ، و بوركت الدماء الحرة الجارية فيه ، و سأرفع هامتي أمام التاريخ و ساصرخ بملئ فمي ووسع عقيرتي ، موريتاني وافتخر ، فبﻻدي لم تتنجس بذلك العار المذل ، وشكرا لفخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز لقد كنت موفقا ورائعا حقا حين استمعت لنداء القيم و للضمير و استجبت .

بقلم الشيخ التيجاني عبود

Exit mobile version