…. ما ان اسْتويْتُ على متْنِ السَّفِينة حتى استحضرتُ قوله تعالى ” لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ” ، ثم دعوت دعاء السفر ، ما ان أتممته حتى وصلتُ الى حيثُ رافقني الاستيوارد، وإذا بغرف مرقمة من 1 الى 105 ، ولأني لا احمل لوناً أُمَيَّزُ به ولا شعاراً أُعْرَفُ به ذهب بى ، كعادته منذو سبعة وعشرين عاماً ، في الحالات المماثلة ، الى غُرفة ” مَرْبط الْفَرس ” حسب تعبيره.
قلتُ : هل تعني “بمربط الفرس” أن “أُمَّ التَّمادي الصَّغيرة ” ستلحق بالشَّهِيله وأن رأس “السَّارق” سيعلق على رقبتها في ” المربط” !! ،
أم تعني أن الفرس البيضاء المربوط هنا هو تيَمُّناً بالفرس “العصا” التي انقذت صاحبها جُذيْمه الأبْرَشْ لمَّا غدرت به الزباء وأرادت إهانته ثم قتله. !!
أم أنك تريد ان تقول بأن فرسك هذا هو حصان طروادة “Trojan horse” ، في ابتداع حيلة جديدة ، بعد حصار دام لمدة عشر سنوات لم يستطع القومُ خلاله فرض الاستسلام على طروادة ، ولم يستطيعوا كذلك اقتحامها إلَّا بعد خدعة الحصان الخشبي هذه…..ونهاية القصة معروفه ، أجارنا الله وإياكم من كل انواع الخدع ومن كل النهايات المأساوية !
قال : لا افْقَـه كثيراً مما تقول ثم أشار إلي بالدخول ، إلى حيث الفرس الأبيض !
فقلت : أيها الإستيوارد ، أنا اريد ان أكون في بيتٍ لا علامة له…! ، لافرس حتى ولو كان ابيض ولاحمار حتى ولو كان ذهبياً ولا فِيلَ حتى ولو كان هو الآخر “ابيض”…. ..ولاهم يحزنون !
قال : أجسورٌ انت ، أيها الراكب ، إلى هذا الحدِّ ؟
قلت. : بل أنا جبانٌ إلى أقصى الحدِّ ! ولولا جُبنى لَـ…………………….! ،
ألا ترى أيها الاستيوارد كم أنا جبان ؟ وإلا لأكملتُ الجملة أعلاه بالأحرف لا بالنقاط !!
قال : أَطَلتَ عليَّ ، لماذا هذا الحوار ؟
قلت : أنا رَجُل يُحب الحِوار ، رغم أن أهلي يكرهونه ، ويعشقون الواحِدَ الْمُتَكلِّمَ والْجَمْعَ الأخْرَس !
قال : المهم ….كيف نُمَيِّزُ البيتَ الذي تريد إذاً ،
قلت : تذَكَّر انه ماليست له علامة فترك العلامة إذاً له علامة ،
قال : تريد ان تكون على السفينة كما الحرف في لغة “الضاد” ، لا تريد أن تَكُون فِعلاً ولا إسْماً ،
قلت : هو بالضبط ما أريد ،
فلا أريد ان أكون فِعلاً ؛ فقد كادت السفينة تغرق من شدّة الفعل ورد الفعل بين القبطان والبحارة ، وكادت الأبصار تَزيغُ وكادت القلوبُ بُلُوغَ الْحَناجِر من كثرة ادِّعاء أن الفعل “صحيح ” رغم أن السفينة كلها “معتلة” !
ولا أريد ان أكون إسماً ؛ فقد كاد مَن يُنادي السَّفينة يَحِيرُ لكثرة ما غيَّرت أسماءها من : غانا ، فالتكرور ، فالملثمين ، فشنقيط ، فالبرزخي ، فالسَّيْبه ، فموريتانيا .
فأنا ، أيها الاستيوارد ، لا اريد ان أكون إلاّ حرفاً ……… حرفاً كَمَا :
همزةُ قطْعٍ ، حتى اقطع الْسِنَة كل من يقولون بألسنتهم ما ليس في فُلُوبهم و حتى أقطع دابر القوم الذين ظلموا ……ثمَّ أجلس إلى حيث أنا ، و احمد الله رب العالمين .
وهمزة وصل حتى أصل ما قطعت السياسة من عري التواصل بين الأشقاء والأخوة والعائلات والسياسيين المتخاصمين وبين مكونات وجهات وشرائح شعبي العزيز ، بعدما كأنَّ الجميع دقُّوا بينـهم عطر منشمِ .
وعلامة رفع حتى ارفع الظلم عن الضعفاء والمستضعفين وارفع مكانة اصحاب الكفاءات والخبرات وارفع الحرج والمشقة عن “المكلفين ” بمهام لا قبل لهم بها ، بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب !!
واداة نصب حتى أنصب الشراك لكل المنافقين والْمُطَبلِين و”الصَّفاكين ” ولكل مُطالب بِخرق شرعنا و دستورنا ، فأمسكه بالشراك وأبقيه فيه “يُبَـطْـبِـطُ” حتى يَنْتَتِف ريشه ………وتخور قواه ………وتذهب ريحه ، ….ثم اتركه وهو على ذلك الحال إلى ما بَعْد 2019 ! .
وعلامة ضم حتى أضم صوتي الي أصواتكم أنتم المطالبين بتحسين خدمات الماء والكهرباء والصحة والتعليم والمطالبين بالأمان في بيوتكم وفي شوارعكم وعلى طرقات ” أَمَلِكُم” و أضمه خصوصاً الى حملة ” #معا_للحد_من_حوادث_السّير “.
وحرف جرٍّ حتى أجُرَّ الزَّرَب والْحَطَب وأجُر الحبال والأسلاك الشائكة وبلوكات الإسمنت لؤسيج بها الجهات الأربع للساحات التى يجري اعدادها فى قلب العاصمة نواكشوط قبالة بناية مجلس الشيوخ ، حتى لا يستطيع إنس ولا جان و لا قط مؤذٍ ولا كلب ضال – اكرمكم الله – دخولها ولا التظاهر او الاعتصام من داخلها ابتداءاً من اليوم “الموعود” وحتى اليوم “المشهود” !
وعلامة كسر حتي اكسر سيقان كل من “رقت سيقانه” فصار الى كل زيارة للرئيس يعطي سيقانه للريح فتراه عبر الكاميرا و لسانه ممدود كالمنخنقة مزاحماً الصَّبِيَّ والشَّيخ والمرضعة وهو بهذا يحجب عن الزَّائِـر رُؤْية حقِيقَةِ من سيماهم في وجوههم من أثر الشمس الحارقة ومن نقص الفيتامينات وَمِن سوء التغذية ، ومن علامات البؤس والسقم ، مِنْ أهْلِنا فى البوادي والقرى والمدن الْمَزُورَة .
هِي ذاتُ الْواحٍ ودُسُر : ألواح من خَشَبِ طَـلْحِ وتيْشَطِ وتَيْـدومِ شرقِ وجنوبِ ووسطِ بلادنا ، ودُسُرٍ من حديدِ جبال تيرس ومن نحاس هِضاب اينشيري وشُرُطِ شَدٍّ من سَعَف نخيل آدرار وتكانت ومن تركيبِ ورشات صناعة سفننا في داخلت انواذيبو. ، صُنعت هذه السفينة لمَّا فُتِحتْ أبواب جهنم بعذاب منهمر على الغزات وفُجِّرَت الارض من تحت أقدام الظالمين ولمَّا جاء الامر وفار التنور وطغى الماء ذات يوم من نضال اجدادنا .
لكنها لَم تكن لِتُصْنع إلاَّ بأعين ووحي الَّذين ظلمونا من ذوي الشعر الاشقر والعيون الزرق ، وفي جوٍّ من سُخرية بعض الملإ من قومنا ، مِن جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا !!.
وجدتُ نفسى وأنا على متنها أبحرتْ بي في رحلة طويلة وهي تتمايل صعوداً ونزولاً مندفعةً يميناً وشمالاً، تشعر فى الوهلة الاولى بمتعة المغامرة لكن ما تلبث ان تتحول تلك المتعة الي خوف من أن تستمر الرحلة كلها على هذا
المنوال …. وهي عليه فعلاً منذو أربعين عاماً بالتَّمام والكمال !!.
وجدتُ على متن هذه الرحلة العديد من المسافرين و البحارة و يقودها قبطان ،في زي لا هو بالعسكري ولا هو بالمدني ، تبدو عليه علامات التشنج والإرتباك ، يَبْتَسِم كما الْجُيُوكانْدا : لا تعرِفُ هل تَضحكُ لك ام تضحك عَليك !
وقد دان له فيما يبدو ، اغلب ركاب السفينة ، جَبانُهم وجَسُورهم .
تُدارُ شؤون السفينة كلها بالتوجيهات وبالتعليمات وتدار كذلك بالموبايلات وليس بقوانين البحر ولا بفقه وقضاء ملاحته ، كما جرت العادة.
ما لفت انتباهي هو أن مالك السفينة من ضمن المسافرين ويعيش تائهاً بين البهو والممرات و لا أحد يوليه كبير اهتمام ولا يتعامل معه القبطان إلاَّ بالاشارة فما أن يومئ له فى هذا الاتجاه او ذاك حتى يركض المسكين الى هذا وذاك .
كل “طبخة” على متن السفينه القبطانُ يُعِدُّها و بعض البحارة ينفخ تحتها النيران و البعض الآخر يُبردها و”قِلَّة” تأكلها و المسكين مالك السفينة ” جالس يُحَمِّسُ الْخَرجان و يغْسِلُ الْكَدْحَان ” ، يستيقظ ويستيقظ وفي اللحظة الحاسمة ينام !! ،
و بعد مرور وقت ليس بالقليل ، تبيَّن أنَّ السَّفينة قد تَتِيهُ فجاءت إشارة “التوجيه” ، من وراء المحيطات ، ممن قد صُنعت السفينة أصلاً بأعينه وبوحيه ، من سفنٍ كانت قد أبحرت بعيداً بعيداً ومنذو زمن طويـــل طويــــل :
” ان أشركوا مالك السفينة فى قرار قيادتها” .
عندها شعر البحارة أنه بإمكانهم إعطاء نصائح في شأن قيادة السفينة ، خصوصاً انهم يعرفون أن القبطان حديثَ عَهدٍ بالقيادة وقد وصل قَمْرتها دون المرور بمرحلتي التكوين والتدريب الضروريتين .
والقبطان نفسه يشعر بنواقصه هذه ، دون أن يظهرها ، لا لمالك السفينة و لا للبحارة ولسان حاله يقول :
ولستُ بمبدٍ للرِّجال سَريرَتي ** و إن كنتُ عن اسرارهم بِسَؤولِ.
و هكذا اجتمعوا و توصلوا إلى اتفاق ان يتبعوا نظام التصويت و ترجيح كفة الأغلبية في مسائل قيادة السفينة ، فساد الهرج و المرج و شاعت الفوضى و الغوغائية حتى أصبحت ظاهرة اجتماعية لا يخلو ركن من أركان السفينة منها ، فالغوغاء مرتبطة بالجهل والإنسان عدو ما يجهل.
أدَّتْ هذه الحالة إلى قيام القبطان بفرض رأيه وبتهميش و رفض أي نصح أو قرار من البحَّارة ، وهو ما حَوَّل السَّفينة إلى نموذج القافلة الصَّحراوية التي تهتدي بذكـاء قائدها، وتضـل بمجرد أن يَغيبَ عنها.. …. وإنها لَمُعْضِلـة حقاً يـا رُكَّاب السفينة !!.
لغة الحوار الوحيدة بين القبطان والركاب هي الصَّك والْوكْز والسَّفع والرَّكل والرَّفس واللَّطم والرَّشُّ بماء الْمجاري وشَدُّ الشَّعر أمَّا من رحم ربك ، من الركاب ، فقد اخْتِيرَت لهُم لُغة الْهَشِّ !.
إن نظام الانتخاب هذا تحَوَّل الى كارثة ونكبة لأن مالك السفينة ينقصه الاعداد الكافي من التعليم والخبرة لاختيار افضل القباطنة وافضل البحَّارة وأفضل الممثلين . بل إن القبطان ، على سبيل المثال ، لم يعد يأتي السفينة خِلسة كما كان ، بل صار يأتي عنوة وعلى اعين الأشهاد ، فحُقَّ للركاب أن يتمثلوا ، بِبَـيْـتٍ قديمٍ شاع في كل مجلس :
لقد هزلت حتى بدا من هزالها … كلاها وحتى سامها كل مفلس .
عجبتُ لمالك السفينة هذا ففي الأشياء التافهة كإصلاح كرسيه الخشبي او إصلاح نعله او ساعته او خياطة ثوبه يلجؤ الى مختص نجار او ساعاتي او إسكافي او خياط وعندما يمرض يذهب الي طبيب مختص ، لكن المفارقة الكبيرة انه لقيادة سفينته او ادارتها او إختيار من ينوب عنه يمكن ان يلجأ الى اي شخص …. اي شخص ،
أليست الحملات في معظمها والتي تُقام لإختيار الأشخاص إلاَّ عبارة عن صور فوتوشوبية كأنما أعِدَّت في إطار مسرحية ، عنوانها : ” فلنخدع مالك السفينة ” ، والإلتزامات كذلك عبارة عن وعود ساذجة ، مُغالِطة وكاذبة .
أوَليست البرامج خاوية والخيام هي الاخرى أكثر خواءاً ! ، والأشرطة الصّاخبة تُدَوِّرُ نفسها في وادٍ واهتمامات الركاب في وادٍ آخرَ .
لكنَّ الأدهى والامر هو ما تم من تدوير الركاب أنفسهم خلال الأربعين عاماً الماضية فقد دُوِّروا كما دُوِّرت الأشرطة ودُوِّروا كما يُدَوَّر لبلاستيك في المصانع و كما تُدَوَّر قَنانِي الماء والكوكا والبَبْسي الفارغة بعد استخدامها !!.
ألا يُخيفكم أن كل ما بين أيدي المترشحين وما تحت ركائز خيامهم ، ليس إلا قِنِّيـنَـة غازٍ وعود ثِقابٍ ، يتوسَّطان مُحيطاً قابلاً للإشتعال !!
” أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ …” ؟، تكاد سفينة الغوغائين هذه المكبة على وجهها تتيـه ، ، ممَّا يستدعي الشفقة حقاً على حالها وحال ركابها ، فلا أحد اليوم يعرف إلى أين تَـتَّـجِه ، فلا القبطان يعرف ولا البحَّارة يعرفون ولا المسكين مالك السفينة يعرف ، وقد يَدفع الجميع الثَّمن غالياً ، لا قدر الله ، بعدما حاصروا وهمَّشوا السَّيد “لقمان الحكيم” صاحب المعرفة والخبرة والرشد والحكمة ، خلال الأربعين عاماً الماضية ، وتركوه جالساً في ركن من أركان السفينة يتأمل موج البحر تارة وزرقة السماء طوراً ، حتى لم يعد يكترث للصُّراخ الدائر و لا الغوغاء من حوله مع أنَّه يمتلك “القوة العاقلة” ويستطيع كشف الحقيقة وتعليمها فهو على دراية كاملة بعلم انحراف الظِّل وزواياه وبعلم النُّجوم و الملاحة وهو حقاً الوحيد القادر على إيصال السفينة لبر وشاطئ الأمان ،
لكن لا أحد سائِلُه ولا هو بِمُكْترِثٍ لذلك ، ولسان حاله يقول :
سيذكرني قومي إذا جَدَّ جدهم .** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
بقلم محمد الامين البنيه