لكل هدف يرمي صاحبه الوصول اليه طريق ولكل طريق عوائق وبقدر عظم الهدف تكثر العثرات ويكون الوصول اليه ليس بتلك السهولة التي قد يتخيلها المزايدون … والطريق الذي نحن بصدد الحديث عنه هو طريق الوحدة , ذلكم الهدف الذي لايختلف إثنان في إحتلاله المرتبة الأولي من سلم
الأهمية في أولويات المجتمعات والدول التي تسعي وتخطط للإستقرار كشرط أساسي لامناص من البدء به ليتسني الشروع بعد ذلك في وضع أسس راسية لعملية التنمية التي تعتبر هي الأخري صمام أمان تقدم الدول , و الدعيمة الأساسية في إنسجام الشعوب خاصة تلك التي حباه الله بالتنوع في مجالات مختلفة كالإختلاف العرقي والتباين الثقافي والتمايز الفئوي وغيرها من الأنماط البنيوية في المجتمعات …
لكننا عندما نأتي للحديث عن معالم الطريق الي الوحدة المنشودة في مجتمع كمجتمعنا الموريتاني لابد من الوقوف قليلا عند أهم الخصوصيات التي تميز هذا المجتمع عن غيره من المجتمعات العربية والإفريقية , لنخلص الي أننا نتحدث عن وحدة في مجتمع يعيش ومنذ ما يزيد علي نصف قرن من الزمن علي وقع إشكاليات ضاربة في العمق يبدوا أن الجيل المؤسس للمشروع الأول للدولة لم يوفق في وضع سياسات حقيقة كفيلة بالقضاء علي المقتضيات السلبية لتلك الإشكاليات وتنمية الجوانب الإيجابية فيها لتتحول بذلك من إشكاليات تهدد كيان المجتمع وإنسجامه وتعبر عن وجود بؤر توتر حقيقة كامنة في خلايا النسيج الإجتماعي … الي عوامل تنوع ثقافي وعرقي من شأنها أن تضفي الكثير من التنوع وروافد الثراء علي طبيعة وحياة مجتمعنا , كما لا يبدوا أن الخلف كذلك قد وفقوا في البدء في وضع تلك الحلول التي بتنا في أمس الحاجة لإيجادها أكثر من أي وقت مضي , ذلك أنه لايمكن الحديث عن أي وحدة في مجتمع كمجتمعنا دون الوقوف بكل جرأ ة وتجرد لإعادة قراءة الوضعية الأفقية للبنية الإجتماعية لمجتمعنا بشقيه العربي والإفريقي وأسسها هذا أولا , ومحاولة لفهم وتصحيح العلاقة الموجودة بين كل من مفاهيم ” الوحدة في الدين , والشراكة في الوطن , والإختلاف في العرق ” ثانيا, فبمحاولتنا لإعادة قراءة الأسس ( العقلانية والشرعية ) التي تقوم عليها الوضعية البنيوية الأفقية لمجتمعنا وبسعينا لفهم حقيقة المفاهيم الثلاثة التي ذكرت في الفقرة السابقة يمكننا أن نضع اليد علي مكامن الجذور المغذية للجوانب السلبية لتلك الإشكاليات ليتسني تجفيفها لمن يريد ذلك أو تمكن التغطية عليها لمن تخدمه…
فكثيرا ما نسمع من يتحدث عن وجود مجموعة من النقاط التي تجمعنا وأنها أكثر من تلك التي تفرقنا وهو كذلك , بل إن النقاط التي تجمعنا أقوي وأكبر من تلك التي تفرقنا ولا أري أن مشكلتنا تكمن في كثرة أو قلة القواسم المشتركة بيننا كلا ولكن المشكلة في نظري تكمن في عدم النجاح في تفعيل النقاط القوية والكبيرة التي تجمعنا .
أول هذه النقاط وأهمها هي الإسلام , رغم أننا مسلمين جميعا ورغم تشدق الكثير منا بأنه إذا وحدنا الدين فلاشئ سيفرقنا وغيرها من الشعارات الا أن بعضنا في نظر بعضنا لا يستفيد من الإسلام الا كما يستفيد الصخر من الماء إذا أسكب عليه (الزنوج) وبعضنا الآخر لاخير في علمه وإمامته مردودة وأعراضه مستباحة (لمعلمين ) وبعضنا الآخر جسمه ودمه وفروج نسائه ملك للآخر(لحراطين) فهل أباح الإسلام كل ذلك !!! أم أن المشكلة في فهمنا وتطبيقنا الخاطئ للدين الذي لم تفلح معنا نصوص وحيه الردعية في ثنينا عن تربية أجيالنا منذ نعومة أظافرها علي مثل هذه الخرافات في حق إخوانهم في الدين والوطن والعرق ! المشكل في مثل هذه الخرافات التي ربيت عليها الغالبية الساحقة من أبناء مجتمعنا ـ للأسف ـ أنها تنمي إستصحاب الإحتقار و الإحتقار علاوة علي أنه محرم في ديننا الذي ندعي أنه يوحدنا فهو أيضا مدعاة لهدر الحقوق (المادية والمعنوية ) وهو ما نعيش اليوم كمجتمع علي وقع مخلفاته للأسف.
أما ما يخص الشراكة في الوطن فمن البديهي أن كل ما ذكرته من هذه الخرافات جعلت الكثير من أبناء مجتمعنا يحملون في لا شعورهم صورا نمطية لبعض ضحايا هذه الخرافات المقيتة لا تزال تطبع وتوجه تفكير الكثيرين بشكل لا واعي ـ الا من رحم ربك فنحن طبعا لا نعمم ونعلم أنه يوجد منصفين وعقلاء وأسوياء ومؤمنين ينكرون بطبيعة الحال مثل هذه الفهوم والسلوكيات الجاهلية المتخلفة ـ وإن كانوا قلة وأصواتهم مبحوحة للأسف , أما مشكلة الإختلاف العرقي فنحن مجتمع يعاني بعض مكوناته من عقدة النسب بسبب عدم قدرة المؤرخين علي الحسم في جدلية “العرب والبربر” ولذلك فنحن حساسين جدا من مسألة النسب هذه التي لم يجد لها البعض من المسكنات سوي القدح في أنساب وأعراق المستضعفين ليضمن بذلك بقائه في المنطقة ” الآمنة ” , لذلك فنحن كمجتمع لم ننجح بعد في تكريس القيم الدينية و الإنسانية والوطنية الكبري والإيمان بها حتي تكون بلسم المرضي وأمل ضحايا الخرافات والقيم الرجعية , فبدون ذلك لن يكون بمقدورنا أن نتجاوز تلك المرحلة المظلمة من تفكير وإهتمام الإنسان البدائي لننطلق نحو العمل والإنتاج والإبداع والتنمية فالنهضة ونقيم تعاليم ديننا الحنيف ونحترم إنساننا الكريم ونجل قيمنا العليا فتجمعنا ونحمي جسم مجتمعنا من القناعات والتصرفات والخرافات الوبائية القاتلة في حقه , ونترك القيم والمعايير الجاهلية المتخلفة بعد أن أذهب الله عنا عبيتها ونشرع في بناء دولة ـ وليس تجمعا لأقوي القبائل ـ يجد الكل فيها ذاته ويلمس مستقبله فيها فيزداد ويقوي شعور الإنتماء لها ويتغلغل الإخلاص لها وعندها لن يكون هناك من يتحدث عن أشياء أصبحت بالفعل ـ وليس بالإدعاء ـ من الماضي
مفهوم الوحدة
لن أتحدث هنا عن التعريف اللغوي والاصطلاحي للكلمة وإنما ما يهمني هو الحديث عن ماينبغي أن تكون عليه الوحدة في أي مجتمع متعدد العرقيات ومختلف الثقافات ومتفاوت المستويات كمجتمعنا الموريتاني , ذلك أن من أبسط البديهيات التي يدركها العقل السليم هو أنه في أي مجتمع ينبغي أن يشعر الفرد والجماعة بتحقيق كل مقتضيات الإنتماء لهذا المجتمع الذي ولد وترعرع وعاش فيه والذي يرتبط مصيره به بشكل أو بآخر . فشعور العضو الإجتماعي ـ علي تعبير أميل دركائم ـ فردا كان هذا العضو أم جماعة بتحقيق مقتضيات إنتمائه للمجتمع يساهم بشكل كبير في تحديد طبيعة تعاطي هذا العضو من حيث الأداء والوظيفة إتجاه مجتمعه , ذلك أن العلاقة القائمة بين العضو الإجتماعي (فردا أو جماعة ) وبين الجسم الكلي للمجتمع هي صمام الأمان لبقاء المجتمع متماسك تتحقق وتوجد فيه ذوات كل الأجزاء المكونة لجسمه الكلي , فطبيعة علاقة العضو بالمجتمع هي في الأساس علاقة أخذ وعطاء يشمل مختلف المجالات , فمتي ما غاب أو هزل الأخذ شعر العضو في المقابل بعدم جدوائية العطاء فتكون النتيجة الحتمية هي إصابة الجسم الكلي بالهزال والمرض من جراء توقف وظيفي طال أحد الأطراف الأساسية في معادلة ” الأخذ والعطاء ”
وحدتنا … الواقع والآفاق
نحن كما أسلفت مجتمع يتكون عموديا من مجموعتين (الزنوج و العرب ) تتكون كل من هاتين المجموعتين من مجموعة من الفئات الإجتماعية التي تختلف من حيث المكانة الإجتماعية التي تحدد بدورها الوضع الإقتصادي والموقع الريادي لكل مجموعة من المجموعات المذكورة , وقد يتسائل البعض عن علاقة المكانة الإجتماعية بالوضع الإقتصادي والموقع الريادي ! فأقول إنها علاقة باتت وللأسف مفضوحة للعيان في مجتمعنا إذ لا يخفي علي ذي عقل بذل جهدا بسيطا في تأمل الواقع المعاش لمجتمعنا أنه بات يؤكد أن مكانة ذوي الفرد في السلم الإجتماعي هي التي تلعب أكبر دور في تحديد وضعه الإ قتصادي وأن الوضع الإ قتصادي للفرد أو الأسرة يشكل ” رافعتة ” وأعتقد أنني لست بحاجة لتوضيح أكثر لهذه النقطة فهي لا تنطلي علي عاقل ـ رغم محاولات إخفائها وجحودها ـ فالكفاءة والأمانة فينا لا قيمة لهما مالم تشفعا بعلاقات وتدخلات النافذين . وهو حكم علي المستضعفين و المهمشين بالبقاء في دائرة الفقر والحرمان والإزدراء وحكم علي البلد بالضعف والتخلف والتبعية لغيره وحكم علي المجتمع بالنفاق والتملق وتبني المعايير الجاهلية المتخلفة ناسين أو متجاهلين أن دين الإسلام الحنيف الذي ندعيه قد رمي بمجيئه كل تلك المعايير و إ عتبرها متخلفة ظالمة تعادي إعمال العقل ولا تجعل للدين دورا في إدارة وتوجيه حياة الفرد والمجتمع المسلمين وتنفي عن صفتي التقوي والأمانة قدرتهما علي تزكية وتقييم الفرد دون غيرها من المعايير الجاهلية العرجاء .
وهو في الحقيقة واقع مرير من شأنه أن يجعل مستقبلنا غامضا إذا لم يتداركه العقلاء من مختلف أبناء المجتمع وقيادات الحركات التحديثية المختلفة فيه . فالفرصة في تقديري لا تزال سانحة للمراجعة و الإ نطلاق من جديد بنيات وأساليب جديدة تقاطع مظالم الماضي ومآسيه الكثيرة وتؤسس لعهد جديد من المصالحة الإجتماعية والمساواة تنطلق من تحكيم شرع الله في حياتنا وإحترام إنساننا وكافة حقوقه إضافة الي بناء بلدنا وتحقيق نهضته وترك كل ما سوي ذلك من رواسب الماضي الآسنة وراء ظهورنا قبل أن يأتي يوم يعتبر كل ذلك فيه من ضروب المحال ـ لاسمح الله ـ فالكرة الآن في مرمانا ثانية بعد أن ضاعت منا الفرصة الأولي (تأسيس الدولة) فهل سنخطئ الهدف مرة أخري ؟؟؟ !!