ماذا يضمن تقدم الأمم، اقتصاد السوق أم رأسمالية الدولة؟ هل يؤدي تأميم وسائل الإنتاج إلى عدالة اجتماعية؟ هل تؤدي إلى نمو يعود بالنفع على مستوى الشغل وخلق الثروة؟ هل هناك “يد خفية” كما قال آدم سميث تتجلى في كون من يخدم مصالحه الخاصة يعود بالنفع على المجتمع أكثر ممن يحاول خدمة المجتمع بطريقة مباشرة؟ (آدم سميث، “نظرية الشعور الأخلاقي” و كذا “ثروة الأمم”).
هل هناك سبيل بين من يقولون بضرورة تجميع وسائل الإنتاج لتكون في يد العمال والفلاحين والطبقة الوسطى أو على الأقل تأميمها لكي تصبح الدولة في حد ذاتها هي المالك الأساسي لوسائل الإنتاح أو،أضعف الأيمان، تضريب الرأسمال بشكل كبير يعطي للدولة الوسائل لإعادة توزيع الثروة على الطبقات الوسطى والفقيرة من جهة، وبين من يقولون بأن تخفيض الضرائب ودعم القطاع الخاص ورفع القيود القانونية والحمائية وعدم تدخل الدولة وتشجيع التنافسية ستعطي الحرية لأصحاب الرأسمال للاستثمار وهذا من شأنه أن يؤدي إلى نمو يعود بالنفع على الكل من جهة أخرى؟ هل الطريق الثالث، حرية السوق مع ضرائب معقولة تمكن من توزيع عادل لجزء من الثروة والاستثمار في التعليم والصحة ودعم الطبقات الدنيا ممكن؟ (انظر كتاب أليكس كالينيكوس “ضد الطريق الثالت: نقد ضد-رأسمالي” و مقالة براندون أوكنور “سياسات، مباديء واستطلاعات:
سياسة كلينتون ودولة الرفاه 1992-1996 .(“لماذا تقدمت أمم وتخلفت أمم أخرى؟ هل يرجع ذلك إلى عوامل انثروبولوجية إيكولوجية تاريخية كما يقول جاريد دياموند
الذي يعزو نجاح أمم وفشل أخرى إلى الجغرافيا، والمناعة ضد الجراثيم وإنتاج الغذاء وتدجين الحيوانات واستعمال الحديد؟
(جاريد دايموند “جراثيم، أسلحة وحديد”) أو إلى تبعية الهامش لدول المركز قي إطار نظام اقتصادي عالمي غير متكافيء كما يقول سمير أمين ومناصروا نظرية التبعية في أمريكا الجنوبية والشمالية؟ (سمير أمين “التراكم على المستوى الدولي” و “التنمية اللامتكافئة” و ثيوتونيو دو سانتوس “نظرية التبعية: التوازن والآفاق”) أو إلى سيادة مقولات سردية قومية أسست لخطاب وطني مناهض للاستعمار ولكنه مغيب للأصوات الهامشية من طبقات “منبوذة” وعمال زراعيين وفلاحين صغار ونساء كما دفع بذلك رانجيت وكوها ومفكروا الفكر الهامشي في جنوب شرق آسيا؟ (انظر رانجيت كوها وزملاؤه: سلسلة كتب “دراسات هامشية: كتابات حول سوسيولوجيا وتاريخ جنوب شرق آسيا”).
هل سر التطور يكمن في وجود دول لها ثقافة الإنجاز متطورة ودول أخرى متدنية فيها هذه الثقافة. يطرح ماكلاللاند الأسئلة التالية: ماذا يحفز مجتمعا يسوده الإنجاز؟ لماذا تنتج بعض الأمم شخصيات تاريخية، وكتب وعلماء ومقاولين، بينما تكتفي أمم أخرى بالعيش؟ لماذا تسقط امبراطوريات كانت ذات شأن عظيم؟ هل فقط الحظ أوتوافق مجموعة من العوامل؟ يحاول ماكلالند في كتابه الجواب على هذه الأسئلة من خلال دراسة وتمحيص مجموعة من العوامل النفسية والثقافية التي تؤثر في التنمية الاقتصادية (دايفيد ماكلالاند، “مجتمع الإنجاز”).
صحيح أن ماكلالند انطلق من المجتمع الأمريكي المعروف بثقافة التقاول والتطلع إلى المستقبل ورفع التحديات؛ وهذه الثقافة تهيء أفرادها لكي يكونوا ناجحين، ولكي يحلموا بأن يكونوا دائما أحسن وأفضل مما هم عليه الآن. لهذا أوصى ماكلالند بتطوير مهارات التقاول والمغامرة وووضع الأهداف والمتابرة وتصيد الفرص لدى شباب البلدان السائرة في طريق النمو من أجل أن تبني ثقافة مبنية على التنافسية وإطلاق العنان للمبادرة الفردية لكي تساهم في خلق الثروة و تحويل المجتمع إلى مجتمع ينجز. (مقالاتي حول الريادة والتقاول والإنجاز التي أنشرها في العديد من المنابر الدولية خصوصا مجلتي “مقاول” و “هارفارد بيرنيس ريفيو” هي متأثرة بشكل كبير بفكر ماكلالاند.)
قبل ماكلالند بحوالي نصف قرن وضع السوسيولوحي الألماني ماكس فيبر نظريته حول تأثير روح وثقافة البروتستانتية على التراكم الذي أدى إلى نمو الرأسمالية، خصوصا مقولة “المهنة” بمعناها الديني المتمثل في الاختيار الإلاهي أو المهنة الربانية beruf التي تدفع من يكسب إلى مراكمة الأموال باعتبارها إشارة من الخالق وتفضيل منه، (ماكس فيبر، “الأخلاق
البروتستانتية وروح الرأسمالية”). حسب فيبر، فالقيم الفردانية للخلاص والتي تعبر عنها البروتستانتية في دول مثل هولندا وسويسرا وألمانيا وانجلترا بشكل سوييولوجي يتمثل في تكديس الأموال كتعبير عن تمثل لإرادة إلاهية اختارت أن تغدق عليك خيراتها هو أصل التراكم الرأسمالي الذي أدى إلى تقدم دول أوربا الشمالية ونمو طبقاتها الوسطى.
يتساءل الكثير في العالم العربي والإسلامي هل يمكن أن تنطبق نظرية فيبر على المجتمعات الاسلامية، أي هل هناك أخلاقيات مستمدة من الثقافة العربية الإسلامية ومن الدين الإسلامي تشجع على نوع من التراكم المادي يرى فيه الناس على أنه فضل واختيار من ا̒. الرأسمال كاحتكار وتراكم ظهر في فترة كانت فيه الدول الإسلامية في مرحلة تخلف تاريخية وحتى الدولة العثمانية، فرغم نجاحاتها فإنها لم تهتم بخلق وتشجيع ظهور طبقة ميركانتيلية تغامر وتكدس الثروات (انظر برنارد لويس، “ما هو الشيء السيء الذي وقع: تقدم الغرب وردود فعل الشرق الأوسط” ومقالي حول “المجتمع المقاولاتي” والتي حاولت من خلالها قراءة سلوكات التراكم عند تجار سوس وفاس وكذا مقالي حول “النخبة الفاسية” والتي حاولت من خلاله إعمال منهج ينهل من كرامشي وفيبر لفهم نجاحات أهل فاس الاقتصادية والتجارية والسياسية).
لا بد لدارس التنمية أن يقدم جردا نقديا وتحليلا لهذه النظريات والمفاهيم في علاقتها بالتنمية وقضاياها خصوصا على مستوى الدول النامية والدول الصاعدة. هذه النظريات أثرت بشكل أو بآخر على الفاعلين المغاربة سواء في فترة الاستقلال أو إبان التقويم الهيكلي أو في فترة الإصلاح وتقارير التنميةالبشرية. هذا يعني أن مفهوم التنمية متحرك ومتحول وما هو ثابت هو الرغبة في النمو لدى الحكومات والشعوب. المفارقة تكمن في أن ثمار النماذج المعتمدة لا تظهر إلا بعد عقود ولكن هذه الفترة الزمنية تشهد تحولا في التفكير يؤدي إلى بروز نماذج أخرى تقوض الأساس المفاهيمي للنماذج السابقة. لهذا فالأمم التي تنجح هي التي توافق بين التخطيط والسرعة والفعالية في الإنجاز لكي تكون دائما غير متأخرة عن ركب خطاب التنمية.
لحسن حداد