شراكة المغرب مع الاتحاد الأوربي (في أشكاله وبنياته المتعددة والمتوالية) تمتد لحوالي خمسة عقود من الزمن. وقد حكمتها الرغبة المشتركة في تعزيز العلاقات منذ الاتفاق التجاري بين المغرب والسوق الأوربية المشتركة سنة 1969 مرورا باتفاقية الشراكة وكذا تعزيز آلية الحوار السياسي، ووضع منطقة للتبادل الحر، وبعدها تعزيز الحوار السياسي والحوار حول قضايا الأمن في إطار سياسة الجوار الأوربية، والتي تلتها الخطة من أجل تنفيد الوضع المتقدم وذلك بهدف خلق فضاء للقيم المشتركة والتنمية الاقتصادية داخل فضاء اقتصادي مشترك. كل هذا تعزز بالشراكة المسماة “الهجرة، وتنقل الأشخاص والأمن” واتفاق الصيد البحري وتنفيد الاتفاق الفلاحي، والاتفاق الحر والمتكامل والذي هو موضوع التفاوض في الوقت الحاضر. زد على هذا التقارب بين المغرب والاتحاد الأوربي في الميدان التشريعي والقانوني ومشاركة المغرب في عمل وكالات وبرامج الاتحاد الأروبي ووضع الآليات للتعاون في الميدان المالي…
ترسانة غنية مبنية على رغبة مشتركة في تعزيز التعاون والارتقاء به إلى مستويات تضمن دعم وصون مصالح الطرفين ورؤيا متجددة تطمح إلى خلق إمكانيات للتعاون والتشارك داخل منظومة مشتركة للقيم قوامها الاحترام المتبادل والسعي لتدليل العقبات وخلق فرص الشغل وتنمية الثروة ودعم الاستثمار وتعزبز الذيمقراطية ودولة الحق والقانون.
ما السبيل إلى صون هذه الرؤيا واستثمار هذا الكم الهائل من أوجه وآليات التعاون في ظل المتغيرات التي عرفها الفضاء الأوربي وعرفها المغرب خلال العشر سنوات الأخيرة؟ توالي الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في أوربا منذ 2008 كانت نتائجها بروز مظاهر الشك في الحلم الأوربي بخلق فضاء متكامل ومندمج تتحقق فيه رؤيا أوربا كمنبع ومرتع لقيم الحداثة والديمقراطية والحقوق والاختلاف والتنوع والتسامح والتصالح مع الماضي ومع المستقبل.
خريطة أوربا السياسية تختلف بشكل كبير عما كانت عليه قبل 2008. خفت صوت الأحزاب التقليدية ذات التوجه الأوربي القوي وتوارى دوها إلى الخلف في دول مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا، وظهرت تيارات معادية للتدبير الموحد لقضايا مصيرية مثل التوازنات المالية والهجرة والسياسة الاقتصادية والعلاقة مع دول الجوار، وذلك في دول مثل اليونان وإسبانيا وبولونيا وإيطاليا وهنغاريا، واستطاع المشككون في الانتماء الأوربي للمملكة المتحدة من انتزاع تصويت لصالح فك الارتباط مع الاتحاد الأوربي بعد حملة شابها التضليل والأخبار الزائفة. هكذا نرى بروز تيار قوي معاد بشكل أوبآخر لأوربا الموحدة من اليمين واليسار وظهور نزعات وحركات شوفينية وعنصرية وأحزاب معادية للهجرة وصعود أصوات ذات توجه شعبوي للحكم–كلها تنشط لصالح وقف عملية الاندماج الكلي لدول الاتحاد ووضع تصور موحد للقضايا المصيرية. كل هذا جعل زعامات مثل أنجيلا ميركل وإمانويل ماكرون في موقف دفاعي وحرج كبير على المستويين الداخلي والأوربي.
على مستوى الشراكة مع الحليف الأمريكي، فقد بدا دونالد ترامب معاديا بشكل صريح للسياسة المشتركة لدول الاتحاد في ميادين الهجرة والتدبير الاقتصادي مما كان له تأثير سلبي على آليات كانت تشكل دعامات أساسية للتوجه الوحدوي الأوربي مثل مجموعة “السبعة الكبار” و “الحلف الأطلسي”…
تعرف أوربا تغيرات سوسيولوجية وسياسية واقتصادية وثقافية عميقة وهذا لن يسهل من عملها لإنجاح مسلسلات الشراكة المتقدمة مع دول مثل تركيا والمغرب وشراكاتها المختلفة مع دول
الشرق الأوسط وجنوب المتوسط وشرق أوربا وإفريقيا وغيرها… لن يندثر الحلم الأوربي ولكنه سيعرف تحولات كبرى ستعرقل تحقيقه مثل تنامي النزعات القومية وإعادة ترتيب وإحياء مفهموم “الدولة القومية” وإعادة النظر في سياسات الإدماج والصراع حول تدبير الاختلاف في علاقته مع مفاهيم المواطنة والانتماء، وقيم الديمقراطية في علاقتها مع قضايا الثقافة والدين….
عرف المغرب كذلك ويعرف تحولات مضطردة منذ سنوات. عقدين من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجريئة في زمن “العهد الجديد” أعطت نتائج مهمة جعلت المغرب يتبوأ مكانة الصدارة على المستوى الإفريقي والعربي من حيث الانفتاح والدمقرطة والنمو الاقتصادي. هكذا تضاعف الناتج الداخلي الخام مرتين، وكبرت الطبقة الوسطى وتطور دخلها، وتراجع معدل الفقر والبطالة، وتطورت القاعدة الصناعية وعرفت صناعة الخدمات والسياحة والتكنولوجيا ثورة حقيقية، ونما العرض التصديري الوطني وعرفت البنية التحتية نموا حقيقيا، وظهرت إلى الوجود أقطاب جهوية مكنت من توزيع ترابي لابأس به للمجهود الاستثماري.
على المستوى السياسي، عرف المغرب تطورا مهما على مستوى المشاركة السياسية، كما عرف نهضة حقوقية لا يستهان بها، وتبنى دستورا متقدما من حيث فصل السلط، واعتماد مفهموم عالمية الحقوق، وتكريس الطابع المتعدد للكينونة الثقافية الوطنية، وتعزيز دولة المؤسسات وسيادة القانون وتبني مفهمومي المسؤولية والمحاسبة.
ورغم هذه التطورات المهمة فالمغرب يعرف تحديات من نوع جديد تتمثل على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في استعصاء القضاء على بطالة الشباب وضرورة تحقيق عدالة مجالية حقيقية والرفع من قدرات الطبقة الوسطى ومحاربة ناجعة لآفة الفقر وتحقيق طفرة حقيقية في مجال جودة التعليم والخدمات الصحية ودعم تنافسية الاقتصاد الوطني وربح رهان الاستدامة.
وعلى المستوى السياسي، تكمن التحديات في ضرورة استكمال البناء الديمقراطي وتنزيل الدستور وصيانة منظومة حقوق الإنسان من محاولات الرجوع إلى الوراء وضمان فعلي لحرية الصحافة وحرية التعبير وفهم مشترك لقضية استقلال القضاء في علاقته مع دور وسلطة النيابة العامة، وتجاوز محاولات إعادة هندسة الحقل السياسي بعيدا عن إرادة المواطنين، وتحقيق تحول نوعي فيما يخص الحكامة على المستوى الوطني والترابي وعلى مستوى الإدارة والمؤسسات العمومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني والإعلام.
المغرب في حاجة إلى أوربا لدعم توطيد الحكامة والتقعيد للممارسة الحقوقية الناجعة وتحسين مناخ الأعمال ودعم استراتيجية التشغيل والتخفيف من تأثير التحولات المناخية وإنجاح الانتقال الى المقاربة المستدامة فيما يخص الطاقة وتدبير الموارد والنفايات وتشجيع الاقتصاد الأخضر. والاتحاد الأوربي في حاجة إلى المغرب فيما يخص الولوج إلى مياه الصيد البحري وتدبير تدفق المهاجرين ومحاربة الجريمة المنظمة والإرهاب والانفتاح على إفريقيا والتدبير الأنجع لقضايا التنمية والارهاب والتحولات المناخية على مستوى دول الساحل والصحراء.
لهذا فالمطلوب من الطرفين هو المضي قدما نحو وضع شراكة متكاملة وشاملة واستراتيجية وبعيدة المدى تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات والتحديات التي تواجه الطرفين. المغرب لا يريد شراكات على مقاصة يتم التفاوض بشأنها كل مرة عبر مسلسل مضن له أبعاد سياسية مثل ما يحدث بالنسبة للصيد البحري. فمقابل تفهم المغرب لحاجة السفن الأوربية الصيد على سواحله (مقابل أربعين مليون يور هو في غنى تام عنها)، على الاتحاد الأوربي أن يضبط آليات الحكامة لديه ولا يجعل اتفاقياته رهينة حسابات سياسوية ومحاكم تخول لنفسها التدخل في قضايا ذات حساسية سيادية قصوى مثل مشكل الصحراء بالنسبة لبلد كالمغرب (والذي هو بالمناسبة مشكل مطروح على أجندة الأمم المتحدة ولا يمكن لرأي استشاري لأي محكمة أن يقرر فيه بدل الأطراف المنخرطة في المسلسل الأممي).
لهذا فمطلوب من الاتحاد الأوربي، بالإضافة إلى تحسين منظومة الحكامة لديه، أن يتعامل مع المغرب كشريك له سيادة وتاريخ وطموح ومجال جغرافي يحفظ له مصالحه الوطنية والجيوستراتيجية وأن يعترف نفس الاتحاد بمسؤولية أعضائه التاريخية كدول مستعمرة في تمزيق وحدة المغرب منذ القرن التاسع عشر وقبل. وعلى المغرب كذلك أن يشرح بطريقة أكثر فعالية وتواصل ناجع الطفرة التنموية التي دشن لها في الصحراء منذ عقود والتي تجعل من إشكالية استفادة أبناء الصحراء من الثروات مزايدة فارغة المضمون يقول بها ناشطون يبحثون في يأس مستمر عن الحجج لتبرير موقف سياسي أبان الزمن عن عدم صوابه.
على مستوى الهجرة، يحتاج الاتحاد الأوربي للمغرب كنموذج بلد يحمي حدوده وحدود الاتحاد الأوربي وفي نفس الوقت يسلك سياسة متقدمة لدمج المهاجرين الغير الشرعيين الذين يوجدون فوق ترابه. ولكن نفس الاتحاد مطلوب منه تحديد سياسة موحدة للهجرة واللجوء تأخذ بعين الاعتبار مصالح كل أعضائه وأجنداتهم الداخلية ولكن دون التخلي عن التزاماته ومسؤولياته تجاه اللاجئين والهاربين من جحيم الحرب والاضطهاد الطائفي والسياسي والديني.
من جانب آخر، سياسة شنجن بيروقراطية بشكل لا يحمي مصالح تنقل رجال الأعمال والطلبة والمدرسين والنخب السياسية والمنتخبين والمثقفين ويضع الكل في سلة واحدة وفيه مضيعة كبيرة للوقت وللفرص. سياسة التأشيرة يحب أن تكون أكثر ذكاء وانتقائية مبنية على معطيات متراكمة لتسهيل ولوج من ليست لهم رغبة في الهجرة. ليست سياسة شنغين بيروقراطية فقط ولكنها تنم عن عدم ثقة حتى في نخب دول الجنوب ما بالك شعوبه. سياسة “القلعة المحصنة” التي تسلكها أوربا هي عامل من عوامل جاذبيتها كأرض يريد الكثير الهجرة إليها.
الهجرة التي تريدها أوربا هي هجرة للأدمغة وهي بالمناسبة سياسة تنطوي على مفارقات غريبة: فأوربا تساعد دول الجنوب في الاستثمار في التربية والتكوين عبر المساعدات المباشرة والمنح والبرامج وفي نفس الوقت تشجع هجرة الأدمغة نحو الجامعات ومراكز البحث والمقاولات الأوربية. من جانب آخر، سياسة الادماج ورغم بعض الإرهاصات فيما يخص الأخذ بعين الاعتبار الحاجيات الدينية والثقافية للمهاجرين، لم تنجح لأنها أهملت الجانب الديني (مما جعل الكثير من الشباب لقمة صائغة في أيدي بائعي الأوهام) ولم تتخل تماما عن المقاربة الإثنية تجاه العرب والأفارقة رغم رغبتها في أن يعتمد الكل القيم المشتركة لوطن الهجرة.
من جانبه ولكي يكون شريكا استراتيجيا يعول عليه، على المغرب كذلك أن يقوم بالإصلاحات الضرورية ويعتمد السياسات القويمة والمناسبة. لا يجب أن يتردد فيما يخص تطوير منظومة حقوق الإنسان بما في ذلك الحق في التظاهر وفي المحاكمة العادلة وحماية المرأة من العنف والأطفال من الاستغلال وحماية حرية التعبير وحرية الصحافة وأن يعتمد جملة من الإصلاحات لتعزيز الترسانة الحمائية بجرأة أكثر.
عليه كذلك توضيح الرؤيا فيما يخص استقلالية القضاء (خصوصا في علاقته مع النيابة العامة والتي من الفترض فيها تنفيذ السياسة الجنائية التي تعتمدها الحكومة)، ودعم آليات الرقابة والمساءلة ومحاربة الفساد خصوصا في الإدارة والجماعات المحلية والقضاء والتعليم والصحة وعلى مستوى القطاع الخاص والمجتمع المدني والإعلام، وتقوية نجاعة العمل البرلماني ووضع سياسة لإشراك المواطنين في التنمية عبر استشارتهم ووضع الآليات للتفاعل معهم.
على مستوى تحسين محيط الأعمال، على المغرب أن يكون أكثر جرأة فيما يخص المدة الزمنية التي تأخذها القضايا التجارية أمام المحاكم، وتكاليف التسجيل العقاري، وتكاليف تسريح المستخدمين، والولوج إلى التمويل، وتكاليف وضع حد لوجود المقاولة، والضغط الضريبي، وبيروقراطية الإدارات المحلية وحماية المستثمرين وقضايا الاستدامة.
مساعدات الاتحاد الأوربي لا يجب أن تركز على هذه القضايا لأن المغرب قادر أن يتقدم على مستواها دون الحاجة لمساعدة تقنية من الشركاء. هكذا سيتم، بدل ذلك، تركيز المساعدات على محاربة الفقر وتشغيل الشباب وعلى التربية والتكوين والولوج للخدمات. على المغرب أن يصل إلى مستوى الدول الأوربية فيما يخص حقوق الإنسان والحكامة ومناخ الأعمال لكي يصير شريكا ذي مصداقية ممكن التعويل عليه فيما يخص تنمية إفريقيا ودول الساحل.
على المغرب كذلك أن يكون أكثر فعالية في التأثير في البرلمان الأوربي. اللجنة المشتركة للبرلمان الأوربي والبرلمان المغربي آلية مهمة من آليات التأثير على مستوى البرلمان الأوربي ولكنها تحتاج للدعم المالي واللوجسيتيكي لتعبئة أكبر عدد ممكن من المؤثرين ومجموعات الضغط والتكتلات السياسية على مستوى البرلمان الأوربي. ولكن ما ينقصها بالفعل هو عمل ناجع وفعال في الميدان على مستوى العموديات والبلديات يقوم به القناصلة والسفراء والمجتمع المدني المساند للمغرب للتأثير على البرلمانيين الأوربيين وعلى مستوى كل دولة دولة. ما تخصصه الحكومة المغربية من اعتمادات للقناصلة والسفراء للقيام بالعمل الإشعاعي والتعبوي وخلق التحالفات ومجموعات الضغط والجمعيات المساندة على المستوى المحلي ضئيل إن لم يكن منعدم. هذا في الوقت الدي يوظف فيه الخصوم إمكانيات هائلة لاستصدار القرارات ودعم الأنشطة وتجييش الرأي العام المحلي والتأثير على البرلمانات ووسائل الإعلام وصانعي القرار.
الشراكة تعني التكامل وتعني كذلك فهم التحديات التي يعيشها الطرف الآخر وكذا فهم كيفية التأثير في مؤسساته وثقافته السياسية بطريقة إيجابية. تعيش أوربا أزمة وجودية حادة وتطوير علاقاتها مع شركاء لهم من المصداقية والعمق الحغرافي والتاريخي والثقافي مثل المغرب كفيل بدعم القوى المتطلعة إلى بناء فضاء متكامل للتعايش والقيم المشتركة. مغرب اليوم يواجه تحديات تدبير مرحلة ما بعد الربيع العربي وما بعد إصلاحات “العهد الحديد” الجريئة. شراكته مع أوربا لا تعني التبعية الاقتصادية وهو ما يستوجب منه المضي قدما في نسج شراكات من نوع جديد مع إفريقيا والشرق العربي وروسيا والصين ودعم الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. ولكن القرب من أوربا ووجود تاريخ مشترك وتداخل اقتصادي واجتماعي وثقافي يعني إعطاء مصداقية أكثر للوضع المتقدم والحوار السياسي والتقارب النشريعي عبر جيل جديد من الإصلاحات تضعه على سكة الدمقرطة الحقيقية والتحديث الاقتصادي وتطوير مؤسسات الحكامة ومزيد من الانفتاح الثقافي والاجتماعي والقيمي.
مستقبل علاقات المغرب بالاتحاد الأوروبي يعتمد على مدى قدرة الطرفين على تخطي الصعاب الداخلية ولكن كذلك على مدى قدرتهما على الاستغلال الجيد للفرص الني يتيحها انفتاح المغرب على إفريقيا وتطور علاقات دول الاتحاد بالصين وبدول الجنوب عامة وكذا الرغبة المشتركة في مواجهة نزعات الانفصال والانعزالية والشعبوية والقومية والإرهاب بعزم وتنسيق وتفاعل عبر جميع المستويات.
لحسن حداد
*عضو لجنة الخارجية بمجلس النواب المغربي وعضو اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي و المغربي