معركة العَلميْن ..

تستعد بلادنا للدخول في فصل جديد من فصول الصراع بين الحكومة والمعارضة بعد إقرار التعديلات الدستورية واعتماد نتائج الاستفتاء الشعبي الذي جرى مؤخرا في تكرار لما أصبح يعرف في الحرب العالمية الثانية بـ “معركة العلمين” بين الحلفاء ودول المحور.
ففي مثل هذا اليوم تحديدا (23 سبتمبر) من سنة 1942م بدأ القائد الألماني المعروف رومل رحلة التعافي من المرض في ألمانيا استعدادا لمعركة العلمين التي دارت رحاها في صحراء مصر الغربية . وفي مثل هذا اليوم من شهر أكتوبر من نفس السنة حدثت المعركة التي خسرتها دول المحور أمام الحلفاء نظرا لإصرار القيادة العليا لقوات المحور على مواصلة القتال على تلك الجبهة مهما كلف الثمن على الرغم من بوادر الفشل التي بدأت في الظهور على أكثر من صعيد: الانقسام وانقطاع خطوط الإمدادات وضعف الروح المعنوية…إلخ.
لكن يبقى الدرس الأهم الذي يمكننا تعلمه من تلك المعركة هو: عدم الدخول في مغامرة قبل تقدير العواقب بشكل جيد،أوفي معركة قد تؤدي خسارتها إلى خسارة الحرب كلها أو على الأصح إلى بداية النهاية كما هو الشأن في معركة العلمين الأولى(سقوط نظام موسليني الحليف الأكبر لهتلر وبداية الإعداد لإنزال النورماندي المشهور الذي وضع حدا نهائيا لطموحات الزعيم النازي).
كانت معركة العلمين “الأولى” بين جيوش من دول شتى لا يمكن على كل حال الجزم بصدق نواياها ولا التسليم بصحة روايتها للأحداث لكن البعض منها على الأقل كان يسعى كما يزعم إلى الحرية وكسر قوس الهيمنة والخوف الذي فرضه هتلر على العالم في ذلك الوقت.
أما “معركة العلمين” الحالية فينتظر أن تدور رحاها في بلد واحد بين إخوة أصبحوا “أعداء” دون سبب وجيه، معركة لن يسقط فيها ضحايا فقط بل البلد برمته. ولا عبرة يمكننا أن نستخلصها من تلك المعركة القادمة إلا ما يمكننا أن نستخلصه من أوضاع مماثلة عرفتها بلدان شقيقة قادتها إلى الفوضى والحرب الأهلية بعد أن فقدت سيادتها وتحولت إلى دول فاشلة تصدر الإرهاب.
أحيانا نكتشف فجأة أننا قد ضللنا الطريق فننوي العودة إلى الطريق الذي سلكناه في الصباح لكن الحاجز النفسي وطول المسافة التي قطعناها تحول أحيانا دون إقدامنا على تلك الخطوة خصوصا في المساء مع حلول الظلام لكننا في هذه الحالة ننسى الحكمة التي تقول : أن تصل متأخرا خير من أن لا تصل أبدا.وأخشى أن تكون هذه هي الوضعية التي نوجد فيها الآن حكومة ومعارضة.
صحيح أن طريق العودة إلى النقطة التي ضللنا فيها الطريق أصبح عسيرا وربما متعذرا بعد المسار العبثي الذي عرفته الأحداث منذ تصويت الغرفة الأولى في البرلمان ضد التعديلات الدستورية المقترحة من طرف الحكومة وما تلا ذلك من إجراءات عقابية ضدهم لا يوجد ما يبررها في الممارسة الديمقراطية السليمة.
فمنذ ذلك الحين ونحن نسير في مسار عبثي مليء بالأخطاء السياسية خصوصا من جانب النظام.ومع أننا هنا لسنا بصدد إحصاء الأخطاء السياسية التي وقعت فيها حكومة الوزير الأول يحي ولد حد امين إلا أن هناك مشكلتين جوهريتين لا أتصور حدوث استقرار داخلي أو استعادة البلد لعلاقاته الطبيعية مع الشركاء الدوليين على المستوى الخارجي بدون تسوية مقبولة لهما وهاتان المشكلتان هما الحوار الجاد مع المعارضة ومعالجة المشاكل المتعلقة بالإرث الإنساني للعبودية بطريقة منصفة . ولسوء الحظ فإن هاتين المشكلتين أصبحت لهما أبعاد دولية وإقليمية ولم يعد في الإمكان حلهما حلا مرضيا دون مشاركة جميع الأطراف بما في ذلك بعض الأطراف الخارجية أو بتنازلات مؤلمة وإصلاحات جوهرية في الداخل وهو ما يبدو أن الحكومة غير مستعدة له بعد. ويوما بعد يوم تتعقد الأمور في وتيرة متصاعدة.
بالأمس القريب كنا نتحدث عن “أزمة سياسية” خارجية بين النظام وبعض الأطراف الفاعلة في المعارضة واليوم أصبحت الأزمة متشعبة داخلية وخارجية وأصبحنا نتحدث عن أزمة النظام مع ذاته وخصوصا مع بعض الأطراف الفاعلة فيه وهي أزمة يبدو أنها أعمق بكثير مما يتصور البعض ممن يختزلونها بشكل ساذج في “صراع الأجنحة” التي هي في الحقيقة مجرد أدوات للنظام وليست جزء منه.
يبدو أن أزمة النظام الداخلية أصبحت أكثر خطورة من أزمته الخارجية مع المعارضة بفعل انخراط قوى عديدة داخله ظاهرة وباطنة في مسار عبثي ينعكس تارة في شكل قرارات رسمية غير مدروسة وسياسات خاطئة وتارة أخرى في شكل ردود فعل غير منضبطة من بعض الأطراف في الموالاة: ومن الأمثلة العديدة على تلك السياسات والقرارات غير الموفقة : حل مجلس الشيوخ دون حصول الإجماع المطلوب، قطع العلاقات مع قطر دون سابق إنذار، طرد الحقوقيين الأمريكيين بطريقة استفزازية،التصعيد مع الجارة الشمالية دون النظر في عواقب تلك الخطوة وفيما يمكن أن ينجر عنها آجلا أم عاجلا على اقتصاد البلد وأمنه وعلى مصالح المواطنين في البلدين وحتى “الحوار الشامل” نفسه بالشكل الذي تم به لا يخرج عن نطاق الأخطاء السياسية التي وقع فيها النظام عن قصد أو عن غير قصد فما فائدة أي حوار لا يؤدي إلى تحقيق الهدف الأسمى المطلوب منه وهو تقوية النظام بمفهومه الواسع .والحقيقة أنه لا قيمة لأي حوار في بلد كبلدنا ما لم يحقق على الأقل الهدفين التاليين:
– تعزيز الاستقرار في الداخل (زيادة الثقة المتبادلة بين الحكومة والشعب من جهة وبينها وبين الشركاء السياسيين المحليين، وتعزيز اللحمة الوطنية والقضاء على بؤر التوتر الاجتماعي الخطيرة من خلال الحل المرضي لكبريات المشكلات الوطنية )
– كسب ثقة الشركاء الخارجيين (ضمان استمرار التعاون المثمر وجلب الاستثمارات الخارجية المباشرة والرساميل الضخمة لتحقيق النهضة الشاملة) فلا يمكن لبلد مثل فرنسا أو لشركة عملاقة مثل توتال مثلا أن تغامر باستثمار أموال ضخمة في التنقيب والحفر في أي بلد إذا لم تكن متأكدة من استقرار النظام في ذلك البلد لعقدين أو ثلاثة بشكل يمكّنها من الحصول على ثمار عملها ويضمن لها عدم ضياع جهودها أو استغلالها لتدر أموالا طائلة تذهب إلى خزائن شركات أخرى أمريكية أو صينية أو متعددة الجنسيات.. ولا يمكن للأموال الخليجية أيضا أن تعرف طريقها إلى هذه الأرض إن لم تكن هناك ضمانات أكيدة باستقرار الأوضاع فرأس المال جبان كما يقال.حتى الأمريكيون أنفسهم وعلى لسان السفير الأمريكي الحالي لاري أندريه يشتكون من غياب الاستقرار في البلد وعدم توفر المناخ المناسب للاستثمار الذي يدفع رجال الأعمال الأمريكيين إلى الاستثمار هنا على الرغم من توفر الفرص الجيدة لذلك.
كل هذه الأمور وخصوصا الأخطاء المتعلقة بالحكامة السياسية ما كان لها أن تحدث لو لم تكن هناك أطراف تعمل من داخل النظام على زعزعة الأوضاع خدمة لأجندة غير معلنة وغير معروفة حتى الآن.
لكن الأزمة في الواقع ليست أزمة النظام أو أزمة الموالاة فحسب بل أزمة المعارضة أيضا التي هالها ما يحدث من تمزق غير مسبوق في أوساط المولاة فتوقف البعض منها عن النشاط انتظارا لحصاد الأزمة دون أن يهتم بالنظر إلى المآلات فيما اختار البعض الآخر تدويل الأزمة من بوابة بعض القضايا الحقوقية (الإرث الإنساني للعبودية) أومن بوابة علاقات البلد المتوترة مع جيرانه.
صحيح أن الرؤساء في العالم لا يحكمون بأفكارهم هم بل بأفكار النخبة المحيطة بهم لذلك هم لا يخطئون وإنما تخطئ النخبة التي كانت دائما بمثابة الشمعة التي تحترق لتنير لهم طريقهم لكن للأسف يبدو أن نخبتنا السياسية والفكرية في الموالاة قد احترقت مرات عدة ولم يعد في مقدورها سوى تكرار فعل الاحتراق كل يوم دون أن ينتج عن ذلك شعاع من نور يمكن الاهتداء به.فأيهم يستطيع أن يضحي بمنصبه أو بمصالحه الشخصية بتقديم النصح أو التوجيه الصحيح في الوقت المناسب في المكان المناسب للشخص المناسب مما يخدم مصلحة البلد العليا على المدى البعيد؟!.
هكذا يبدو لنا أن الكثيرين من داخل النظام ومن خارجه بهذا الشكل أو ذاك وبهذا القدر من المسؤولية أو ذاك يراهنون على سقوط النظام وتقويض السلم الاجتماعي.فما الذي يعنيه انهيار النظام القائم بشكل مفاجئ في هذا الوقت بالذات ؟
خارجيا يعني سقوط النظام انهيارا للهدنة “غير المعلنة” بين البلد والجماعات المسلحة المرابطة على الحدود والتي تمتلك عشرات الخلايا النائمة في الداخل مما ينجم عنه تحول البلد إلى دولة فاشلة ولا داعي لذكر التداعيات المحتملة لهذا السناريو.
أما في الداخل فإن سقوط النظام سيؤدي إلى انفلات أمني خطير وتدهور دراماتيكي للأوضاع الأمنية وتهديد لسلامة المواطنين العزل ولممتلكاتهم على غرار ما حدث في الثاني من مايو الماضي نظرا للانقسامات العمودية والأفقية للمجتمع ونظرا للاحتقان الشديد الذي يسود في الكثير من الأوساط المهمشة وشعور السواد الأعظم منها بالاضطهاد والتهميش وفي بعض الأحيان بالاحتقار والإذلال يستوي في ذلك الناس العاديون منهم ونخبتهم السياسية والفكرية وإن أظهرت عكس ذلك.
ومن المؤسف حقا أن لا أحد استخلص العبر من تلك الأحداث التي كشفت بوضوح عن هشاشة الأوضاع الداخلية والحاجة الملحة المستعجلة إلى الإصلاح الجذري فما تحت الرماد إلا النار. مثلما أنه لا أحد على ما يبدو حتى الآن مستعد لاستخلاص العبر من الاستفتاء الشعبي الماضي وما رافقه من تصرفات لا تمت إلى الممارسة الديمقراطية بصلة.

الوزير السابق البكاي ولد عبد المالك

Exit mobile version