لا مراء اليوم أن موريتانيا بعد ستة عقود من استقلال البلاد، وبعد تجارب مختلفة للحكم الوطني بأنظمة مدنية غير منتخبة، وبانقلابات عسكرية، وفترات انتقالية، وانتفاضات عمالية وطلابية، وحروب اقليمية، والعديد من الاستفتاءات الدستورية، والانتخابات المقاطعة وحوارات التسويات المرحلية، رسمت مشروع التأسيس للدولة الوطنية منذ نجح نهج تغييرات أغسطس، ومنذ اجراء أول انتخابات توافقية حقييقية2009 فاز من خلالها الرئيس المنتخب محمد ولد عبد العزيز بمأموريتين متتاليتين.
ولكي ندرك حجم التحول التاريخي الذي أنجزه مشروع تغييرات (ثوار أغسطس) علينا أن ندرس بتجرد ونزاهة فكرية، الاختلالات التي كانت قائمة، وتراكمات عقود من استنساخ الدساتير والأوامر العسكرية الأجنبية، وعشرة انتخابات مفبركة، وحقب الحكم المدني التابعة، والأنظمة العسكرية الموجهة، والفترات الانتقالية المتذبذبة، وأشكال القوى السياسية، التي تعيد انتاج نفسها ، وتعجز دائما عن الوصول إلى رؤى وطنية أو قبول نهج الديمقراطية داخل تشكيلاتها وبين أجيالها.، أو السماح للشرائح الفقيرة من الوصول الى مراكز القرار، أو الحصول على خدمات التنمية.
وإذا كانت الاستفتاءات التي تمت منذ (الاستفتاء المعروف ب :”وي ونون” في سبتمبر1957)، الي الاستفتاء الدستوري في يوليو 1991 قد تشابها في تبرير ، (تشكّل أنظمة أو مسارات) بإرادة خارجية،
تمت ترجمتهما في الصيغ: “الدستورية”، والتحالفات “المصلحية” لخدمة مصالح المنشأ “ديكوليا كان، أم ميترانيا” .
ولم تتأسس تلك الانفتاحات الديمقراطية، كنتيجة طبيعية للصراع الداخلي، بين ارادات قوى اجتماعية ناضجة ومنظمة في البلاد.
وعلى الرغم من ذلك نجحت التيارات الوطنية في تحقيق جملة من المطالب الحقوقية ، عبر تلك الحقب التاريخية.
الا ان بوصلة (الاستفتاءات الدستورية، والحوارات السياسية) تغيرت تماما في تجربتي الحوارات الشاملة، وما نجم عنهم من انتخابات شعبية وبرلمانية:
1- حوار2011 : الذي استمر لمدة شهر خلال الفترة ما بين 17 سبتمبر/أيلول 2011 حتى 19 أكتوبر/تشرين الأول 2011،
2- حوار2016: الذي بدأ أواخر سبتمير2016 واختتم 20 أكتوبر2016.
3-الاستفتاءان الشعبيان حول الاصلاحات الدستورية اللذان نظما في 25 يونيو2006 و5أغسطس2017.
4-المؤتمر البرلماني المنظم في6مارس2012، الذي أقر الإصلاحات الدستورية التي كانت ثمرة حوار2011 .
**
لقد أسس الحوار بين مكونات الطيف الموريتاني ، تجربة حكم وطني في موريتانيا ، غير مستنسخ من الكناش الفرنسي، أو (نخب الأملازة)، أو حركات (اليسار الشيوعي، واليمين الغربي)، أو(جماعات التعصب الديني، وعنف الربيع العربي)….
وفضلا عن انحياز (نهج ثوار أغسطس)، للفقراء، والمقاومة وأبناء الشهداء، وصناعة المحظرة، ومدارس الامتياز، والقضية الفلسطينية، والطاقة النظيفة، والماء الشروب، والغد الأخضر، وبناء حضارة الأخوة دون رشوة، والمحبة دون اكراه… صوت نهج ثوار أغسطس لآلية الحوار وتنفيذ مخرجاته، كسبيل أمثل لحل كل أوجه الخلاف، بين الأغلبية المدعمة والمعارضة الراشدة.
ومن نتائج هذا المسار الذي كرس الحوار السياسي بدون شروط، وتنفيذ المخرجات التي صوت عليها الشعب الموريتاني بأغلبية ساحقة بدون تسويف، ما يلي:
1-تدعيم الاستقرار، والانفتاح بين الحقب والمراحل والتيارات الوطنية.
2-التمسك بالشرعية الانتخابية للشعب، والشرعية الدستورية للمنتخب، بديلا عن شرعية الحركة والطائفة والمجموعة وزعيم الحزب، ومن يدعي إرادة لا يملكها بحق انتخابي أو قانون دستوري.
3-تثبيت نهج الحكامة، وقيم التشاور البناء، بين الأغلبية والمعارضة.
4-توسيع المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وإعطاء الشباب والفقراء، حقوقهم السيادية، في معادلة دولة العدالة والحقوق.
5-تجاوز التركيبة الاقتصادية والاجتماعية الموروثة من السلطة الاستعمارية، والأنظمة الاستبدادية التي تتحكم فيها نخب الرشوة والفساد.
6-انتهاء حقب الصراع المحتدم بين الهويتين: العربية والإفريقية لموريتانيا، لصالح الهوية العربية الإسلامية المتصالحة مع ذاتها، والمعترفة بمقاومتها وشهدائها، ووحدة مصير: تاريخ، وحاضر، ومستقبل أجيالها.
7-انتهاء حقب عدم ثقة المعارضة الراشدة، في الأغلبية الداعمة، عن طريق احترام التوقيع على مخرجات الحوار الشامل، وانتظام جلسات لجنة الاشراف على تنفيذ مخرجاته، والتحسين من نهج شفافية التقنين، والدعوة المشتركة للتنفيذ ، والالتزام الموحد بالبنود.
8-محاربة تيارات الغلو والتكفير، وناشري ثقافة الإرهاب والكراهية، وهو ما يتمثل في الاقتراع لصالح بناء مواءمة ناجحة بين التدين الصحيح، والثقافة المقاومة، لمحاربة ألوان الغش (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)، وأنواع المستهزئين 🙁 لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) الذين فضحهم الله في سورتي التوبة والمنافقين، وعرف بمآلاتهم في سورتي آل عمران و غافر .
9-لم يعد للقوى الخارجية الدور الفعال في الاتفاقيات السياسية الوطنية، وفي تمويل الخزينة العمومية ، وتنظيم الحالة المدنية البيو مترية ، و تسيير انتخاباتنا ، ورسم علمنا، و الدفاع عن حوزتنا الترابية ، والذب عنا في المحافل الدولية، والأخذ بأزمة الأمور و”الامعات” في اداراتنا، وبرلماناتنا، وحكوماتنا… ولم يعد المتسكعون بأندية السفارات الأجنبية، ينجون من شهبنا.
10- تغير الوضع تماما ، خياراتنا تحددها ومساراتنا تحميها أطرافنا السياسية الوطنية، وسيادتنا تحرسها العيون الساهرة من أبناء قواتنا وقوات أمننا الأماجد، والمغردون خارج هذا النهج حكموا على أنفسهم بالتداول بعملة قديمة كاسدة، أو خدمة علم آخر أفل عصره، وأرم اللاهثون خلفه.
11-أنشأنا اليوم مؤسسة برلمان تأسيسي.
12-رفعنا اليوم علم التأسيس.
13-أقر لأول مرة بشكل متزامن لجنة مستقلة للانتخابات، ومجلسا دستوريا ، وفق تمثيل متفق عليه بين المعارضة والأغلبية.
14-جرم الموريتانيون بالدستور والمحاكم الوطنية الرق والانقلابات والتعذيب.
15-تم التأسيس لنهج الاعتماد علي الصلح بديلا عن النزاع والتدين الحقيقي غير المنافق أو المارق بإنشاء هيئة موحدة للفتوى والمظالم يدمج فيها المجلس الإسلامي الأعلى ووسيط الجمهورية وهيئة الفتوى.
وفي الأفق المشاهد: أصبح سحر الكلام عند المعارضة لغوا، ولم يعد ابتزاز السلطة من قبل اللاهثين المؤيدين رهوا، ومسار عشر ذي الحجة المبارك بدأ مبكرا. ولن يكون بإذن الله لهوا، والشعب بأطيافه يمد يداه طالبا الغيث الجديد:
اللهم سقيا رحمة. وعزة. وكبرياء.
بقلم: محمد الشيخ ولد سيد محمد/ أستاذ وكاتب صحفي.