ولد ابريد الليل يرد على ولد بهيت (مقال مترجم)

أخي العزيز ، اطلعت ، بعد شيء من التأخر ، على الرسالة التي استفهمتموني من خلالها على صفحات جريدة “القلم” .
أتفهم أنه كان شاقا عليكم أن تضعوا اليد بسهولة على بريدي الشخصي ، وأن تضطروا لإعطاء الأسبقية في الاطلاع لقراء “القلم” ، على رسالة موجهة إليٌ . لست منزعجا ، في الواقع ، من انحراف الطريق هذا .. لأني أقدر الروح المهنية التي تتمتع بها هذه الجريدة ، مع أني أطالعها بانتظام مشبوه .
ليست “القلم” هي التي تحدد جدول الأعمال .
وبالعكس فإنني أتابع بمواظبة الإذاعة الوطنية .
وبالمناسبة فإني أتوهم أنكم لو وضعتم تلك الرسالة بين يدي صديقي “عبد الله ولد حرمة الله” لحصلت على أسبقية المرسَل إليه ووصلت الرسالة ببطء أقل .
ولكن لا بـأس ، لأن المرسِل يتمتع بكامل الحق في اختيار طريقة إرسال بريده . هذا لا يقلل بحال من الأحوال من قيمة الأفكار المعروضة ولا من حرارة وصدق العواطف المعبر عنها.
أتذكر أني ، بنفسي ، قبل ثلاث وثلاثين سنة ، عندما كنت مقيما في تيشيت ، استودعت رسالة لدى قافلة الملح (آمرسال) التي تربط ، آنذاك، لعيون بالمدينة التاريخية المحاصرة في سفح “الظهر” برمال “تامكرارت” . كنت مضطرا أن أعطي خبري إلى رفاق كانوا ، هم الآخرون ، مقيمين في عاصمة الحوض الغربي . الرسالة وصلت لهؤلاء الذين كانوا يقضون عقوبة سجن من اثنتي عشرة سنة من الأعمال الشاقة بسبب انتمائهم إلى “حركة عقائدية” . وأكثر من ذلك فإنني حصلت على الرد بنفس القناة . إن تلك الرسالة تمتعت بحظ جيد ، لأن أولئك الناس المقيمين في لعيون تمكنوا ، لا أعرف بأية مهارات بارعة ، من إرسالها من جديد إلى رفاقهم الموجودين آنذاك ، لنفس السبب ، في بومديد وكيهيدي ، وحُرِم منها الموجودون في أو جفت و وادان فقط .
إنني قد أصحبت رسالتي هذه هديةً متواضعة مشكلة من تمر تشيت واللحم الجاف (القديد) ، تعتبر الآن تافهة ولكنها آنذاك أنفس من الذهب .
في تلك الفترة بالذات كان داء الحفر (اسكوربيت) يعيث فسادا ويحصد الناس الأكثر هشاشة ويهدد ، قبل أي أحد ، جميع السجناء في البلاد . حصلت على إغاثة مع سكان المدينة التاريخية التي كافحتُ ، قبل ذلك ، في أكتوبر 1978 ، إبان الجمعية العام لليونسكو في باريس ، من أجل أن تدمج في التراث العالمي للبشرية، الشيء الذي حصل فعلا لها هي وتوائمها المعروفات .
أما وجباتي فقد تحسنت ولكن عليك أن لا تغتر : لم أُصبحْ بعدُ سابحا في الرخاء. ما حصلت عليه هو (كييسات) صغيرة تحتوي على دقيق يمَكن من صنع شربة خفيفة ، وكذلك على علب بسكويت مشبعة بالفيتامينات ، الكل هدية من الهلال الأحمر.
المحدد اليومي للنفقة المخصصة لدرجتي من السجناء ، أي كبار المجرمين ، كان قدره أربعين أوقية.. يبدوا أن مخصص السجناء السياسيين كان مائتي أوقية .
المشرفون على المعتقل الانفرادي كانوا بدرجة من البراعة تمكنهم من أن يوفروا لي وجبتين يوميا : عند منتصف النهار الأرز والفاصوليا (آدلكان) وفي المساء كسكس القمح الأمريكي المُتَبٌل فقط بالملح ولكن بسخاء .
هذا ما يخص نوعية الطعام . من سيشتكي من الكم ؟
في يوم من الأيام جاءني الطباخ منتهزا فرصة تغيب الحراس مؤقتا ليكاشفني ، تحت طائلة السر ، بأنه يعرف شخصا سيذبح ديكا وأن بإمكانه أن يحصل لي على ربع هذا الديك وربما على نصفه إذا كان عندي شيء من الفضة. طبعا انتهزت الفرصة ، مع أني أستحسن الدجاج بدون مغالاة .
في ذلك الوقت لم أكن أستغرب أن يقود الفقر إلى تقسيم ديك على أربعة أرباع ، منذ أن التقيت سنة 1979 وزير داخلية الأردن السابق عدنان أبو عودة ، الذي حدثني أنه حينما كان معلما في نهاية الخمسينات في قرية من الخليج العربي – قبل أن يغمره النفط – كان في أقصى درجات السعادة إذا تمكن من شراء ربع دجاجة . في الظروف التي كنت فيها ، كان يروعني احتمالُ الإصابة ب(اسكوربيت) ويؤلمني الجوع ، كنت أنظر إلى المواد الغذائية التي استغنيت عنها وبعثتها إلى رفاقي على أنها تضحية عظمى تعطيني الشعور بأنني قمت بعمل قريب من تفاني “كاتو” الثوري الذي يذكره الكاتب الفرنسي الكبير ، “أندريه مالرو” الذي صار وزيرا للشؤون الثقافية من طرف الجنرال ديكول لمدة عشر سنوات.
كان مالرو، في شبابه ، ثوريا. وكان يحل بأي أرض تكافح الشعوب فيها الأنظمةَ الظالمة . قبل أن يكافح فاشستية افرانكو ، إبان الحرب الأهلية الإسبانية ، سبق له أن حل بالهند الصينية وبالصين ليشارك في ثورة تلك الشعوب . هذا ما مكنه من أن ينقل أنه : بعد هزيمة انتفاضة مدينة شانغ هاي ، عام 1927 من طرف ” اتشانغ كاي شيك ” ، المدعوم من طرف الغربيين كانت أعداد الثوار الواقعين في الأسر هائلةً بحيث يصعب التخلص منهم جميعا بطلقات البنادق ، فتقرر أن يُحرقوا في المولدات البخارية للقطارات.
الثوري كاتو، الذي كان ينتظر ، إلى جانب العشرات ، دوره ، كان بجواره شابان مذعوران من مواجهة النار وهما حيان ، أما هو – كثوري متمرس- فكان يحمل معه قرصا من سم “اسيانور” ، للانتحار في حالة الضرورة ، فتأثر بحالتهما النفسية المثيرة للشفقة إلى درجة أنه وزع قرص “اسيانو” بينهما ، وقرر هو مواجهة الإحراق بدون تلكؤ .. إنها قمة الشجاعة والتضحية.
أخي العزيز ، أعرف أن ما أقول ليس ما تنتظرونه ، وربما ليس ما تريدون . ولكن هناك ما هو أفضل من هذا وذاك ، وكمثل الكثير منا لا تتمكنون من التعبير عنه. سأذكركم به : إنه يوجد في ضميركم كرجل حر ، إنه ذلك الضوء المدفون تحت ركام اليوميِ والعارض ، التافهِ والعبثيِ . هذا هو ما يلزم محاولة كشفه وهو ما يستحق العناية . إن هذا الضوء يبغض الشر والباطل ، ويقدس الخير والحق .
إنني أنظر إليكم كنذير ، يقذف بالتحذيرات ، لم تمت عواطفه الإنسانية . بصفتكم هذه أرى لكم كنزا – غير مربح- يجب استغلاله .
ابحثوا عن أمثالكم ، شكلوا مبادرة ، اطلبوا من الجميع ، أقوياء وضعفاء أن لا يُجَرٌحَ، بعد أربعين سنة أو خمسين سنة لا أعرف ، بالتعساء الذين كنا نتكلم عنهم قبل قليل هم وأمثالهم .
احصلوا لهؤلاء على هدنة على ماضيهم ، ريثما يتضح الأمر . ما فيه من شيء نبيل وجدير بالاحترام علينا أن نخفيه مقابل ما فيه من شيء لا يطاق بالنسبة للبعض . طبقوا عليهم قانون الصمت المتبع في المافيا : الأمورتا ، أي أن يكون ذنبهم القديم كنزا للجميع ، ريثما يعكف المؤرخون بجدية على تلك الحقبة من التاريخ .
بعض صانعي ذلك التاريخ قد غادروا هذه الدنيا ، وأعتقد أن ذلك كان بدون أسف منهم . هذا العالم كان يظهر لهم قاسيا ، وغير إنساني وبدون معنى. يجب علينا
– عليكم – أن تفعلوا شيئا معنويا لرد الاعتبار لذكراهم ولتلطيف آلام ومرارة أبنائهم .
منظم وقائد إضراب عمال “ميفارما: الذي شل نشاط المؤسسة الاستعمارية ، سنة 1971 لمدة شهرين متتاليين واعترفت “جون آفريك” حينها أنه أطول إضراب عرفته المستعمرات الفرنسية السابقة جنوب الصحراء ، هذا القائد اتصل بي ، هاتفيا ، قبل أربعة أو خمسة أيام . هل تظنون أنه من المناسب أو من اللائق شتمه وسبه من خلال هذا الماضي ؟ بالنسبة لي لا أراه إلا محاطا بهالة من المجد . لا مجد دون آلام مسبقة .
أتذكر ، وكأنه أمس ، اليومَ الذي كلف فيه بالالتحاق بازويرات لرفع المشعل الذي سقط عام 1968 ، من أيدي المضربين الذين حصدتهم الرشاشات من أجل مصالح وإرضاء ملاك “ميفرما” وممولهم البارون كي دي روتشيلد . قد تجهلون ،ربما، أن البارون “كي دي روتشيلد” قد وشح في تلك السنوات بميدالية الاستحقاق الوطني الموريتاني . إن مبادرتكم المذكورة أعلاه ليس لديها ما هو أكثر استعجالا ، في رأيي ، من استرجاع تلك الميدالية وإعطائها إلى المواطن الموريتاني الذي جاء من ازويرات إلى نواكشوط مكبلا بالسلاسل ، رفقة 220 عاملا مفصولين ، تحت عنوان : بعثيون . تريدون معرفة اسم هذا القائد العمالي ؟ أخشى أن أقدم له خدمة سيئة . أشك في أنه مازال يرغب في الظهور ، وخاصة إذا تذكرنا أنه مازال محروما من ميداليته التي ما تزال في أمتعة “المسيودي روتشيلد”.
معذًب ازويرات نفسُه هو الذي أخبرني في الأسبوع الماضي أن الوجه الرمزي لإضراب عمال صوميما – وهي تمثل مصالح بيض جنوب إفريقيا- سنة 1971 ، محمد الحسن ولد اللود قد توفي في نواكشوط، بعد أن رفع إليه من اكجوجت . محمد الحسن كان قد طرد هو الآخر بدون حقوق في 1971 صحبة عشرين بعثيا.
إن هؤلاء العشرين وأولئك المائتين والعشرين من ازويرات قد سحقهم البؤس لسنوات طويلة كانت السلطات تحرص على أن لا يجدوا أبدا فرصة عمل في أي مكان مهما كان . إنهم بدأوا يأملون في اندماج جديد فقط بعد العاشر يوليو 1978.
محمد الحسن الذي غادرنا إلى الأبد أخيرا كان على المستوى الأخلاقي والسياسي حالة نادرة . كان تجسيدا للاستقامة الأخلاقية والنزاهة الفكرية . كان قد أنهى كل نشاط سياسي منذ إعلان الديمقراطية ، سنة 1971 . يعتبر أن موريتانيا أمام الديمقراطية تشبه دجاجة وجدت سكينا . وصل إلى قناعة بأنه ليس بإمكانه أن ينخرط في حزب فاقد للنظرة الإيديولوجية الدقيقة والرؤية الواضحة ، وأنه ليس بإمكانه التٌمَاسُ مع تنظيمات مبادئها ضبابية . لم يضع قدميه ،على الإطلاق ، في أي مهرجان أو أي اجتماع منذ خمس وعشرين سنة ، أي منذ أن أوقف حزب البعث المحلي نشاطه . أنه يقبل كل شيء إلا الميوعة ، أو التساهل . منذ ربع قرن لا أراه إلا نادرا . منذ أن تميعت الأمور لم يبق إلا ارتكاسات وصداقات وذكريات مشتركة في أوقات قلق وخوف وأمل وتضامن لا ينفك مبنيا حول قضية عامة لا تهم أحدا بعينه وإنما كل البؤساء وضحايا الظلم .
هناك آلاف من أمثال المرحوم محمد الحسن يجب اعتبار عواطف الأحياء منهم وعواطف أبناء الذين قضوا نحبهم .. واحترام الأموات أيضا ، كما تقرر ذلك جميع المنظومات الأخلاقية في الدنيا .
من الذين فارقوا الحياة أيضا ، معطلل وبلخير، وهما من عمال الموانئ سابقا . أبناؤهم أصبحوا من عمال الموانئ مثلهم . هؤلاء الرجال انخرطوا في الحركة التي كنت فيها وهم في مرحلة النضج من العمر في مطلع السبعينات . هذا النوع من الناس لا يندفع بسهولة ، ولكنهم ، لأول مرة في حياتهم ، لقُوا شبانا – مثقفين حسب فهمهم – يشاطرونهم اهتماماتهم العميقة وعواطفهم الدفينة. أكثر من ذلك إنهم يبشرون بعَالَم أمل ، عالَم غير منتظر مع أنه رائع : إنها تباشير الثورة . كل ثورة تهدف إلى إعادة الكرامة للمظلومين . إن الصدق الساطع لدى هؤلاء الشبان قد احتل قلوب أولئك الرجال الناضجين في العمر ، والذين انحنت قاماتهم وتجعدوا تحت وطأة العمل البدني الشاق ، والبؤس الدائم وظلم الدولة ، إلى درجة أن كل ما يصدر من أفواه الأولين يدخل مباشرة إلى قلوب الآخِرين . أيديولوجيا الحركة وشعاراتها صارت مع الوقت ، شيئا فشيئا ، هي لغتهم اليومية، وفي النهاية تماهوا مع الحركة ، فصارت هي عشيرتهم : عشيرة يُخفونها ولكنهم مستعدون للموت من أجلها .
عندما اندلعت حملة اعتقالات البعثيين الشهيرة ، في مارس آذار 1982 التي طالت حوالي 400 شخص ، كان من ضمن المعتقلين مجموعة من عمال الموانئ تقدر ب 12 حمالا . كانوا – كالآخرين – فيما يسمى (المائة متر مربع) في قاعدة الهندسة العسكرية .
في النهار الجميع في الزنزانات والتغذية شحيحة ، حتى بالماء . الشراب بعد 24 ساعة أما الأكل فالحظ يوفره على مدة أطول . المساء مخصص لتعذيب هؤلاء الرجال لمعرفة أعضاء خلية كل واحد منهم ومعرفة مسؤول الخلية . الحقيقة أن البوليس لا ينتظرون شيئا جوهريا من استجواب هؤلاء لحراطين – “العرب السمر” كما نسميهم في ذلك الوقت – الأميين أو في طريق المحو السري للأمية . ما يريده البوليس هو تحطيم معنوياتهم ، أو – إذا أمكن – ارتدادهم . بعد أسابيع أطلق سراحهم سوى اثنين أو ثلاثة ، ولم يصل البوليس إلى أي هدف من الأهداف المنشودة .
التقيت تحت ظل الجمهورية الحالية ، لآخر مرة ، العظيمين التاريخيين المذكورين أعلاه : الضعف البدني مسيطر على جسميهما ، ولكن وجهيهما تغشيهما المهابة ، بل الجلالة . أحدهما صار يمشي متعكزا على عصاه ، والآخر فقد البصر ولم يعد يخرج من كوخه إلا ممسكا بيد ابنه الأصغر . في هذه الوضعية ، وفي هذه السن ، وبعد مقدمات الحديث ، ظهرا لي وكأنهما من “أصحاب الكهف” . أنا نفسي تغيرت كثيرا ، أما هما فما زالا يكرران شعارات التطرف اليساري : فقرات كاملة من وثيقة “بعض المنطلقات النظرية” التي أقرها المؤتمر القومي السادس لحزب البعث العربي الاشتراكي في دمشق عام 1963 ، والذي كان نجمه علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية العراقية الذي جاء بعده أحمد حسن البكر.
تلك الشعارات كانت تشبه تراتيل مقدسة ، لها تأثير منقذ طلسمي ، يجلب شعورا داخليا مؤنسا ، منعشا للذهن والقلب إن لم يكن للجسم ، بالنظر إلى تلك الشعاعة التي توقدت وأضاءت تلك الوجوه المنطفئة .
مما زاد في ألقهم النوراني أنهم تذكروا الليلة المظلمة والباردة وهم معصوبو العينين – مبالغة في إشعارهم بالرعب والهول – حين زُجَ بهم في زنزانات رطبة، أرضية عارية وثلجية .
تذكرت أنا أيضا مجيء هؤلاء النزلاء الجدد الذين لا يعرفون التواصل بألف باء “مرس” السجن .. أي بأبجدية السجون ، كما هو حال رفاقهم الذين كان لهم مستوى أعلى في ترتيب سلم المنظمة، هؤلاء يتواصلون فيما بينهم بالضرب بآلة صلبة على الجدار .
ما هي ردة الفعل أو الارتكاسة المتوقعة أمام هؤلاء الرجال ، بعد ثلاثين سنة ، وهم في هذه الحالة ؟ .
سأصارحكم بردة فعلي الشخصية ، لأنكم متمادون منذ زمن في القذف نحوي بما طفح به قلبكم : إنني شعرت فقط وأنا أحاول مخاطبة هؤلاء الزوار أن حنجرتي اعترضت فيها شوكة : “شَجًا” .
أخي العزيز
يجب أن أضيف أن كل استحضار ولو موجزا لتلك الفترة القديمة لا يذكر بالدور والتضحيات من كل صنف لمناضلي الحركة الوطنية الديمقراطية المعروفين بالكادحين ، هو تزوير . أولئك الناس ضحوا بكل شيء – ليس من اللازم أن نتفق معهم لنقولها – لصالح المظلومين والبؤساء والعمال والعبيد . إذا كانت هذه الحقيقة اليوم منسية أو من غير المناسب ذكرها ، فإن ذلك لا ينقص من كونها مسجلة في صفحات التاريخ بشكل أبقى مما هو منقوش على المرمر والحجارة .
لنتقدم الآن إلى تضحيات هذه “الحركات العقائدية” من أجل البلد .
أتساءل ، هل سبق لكم أن طرحتم السؤال : ما هو أكبر خطر يمكن لبلد أن يواجهه ؟ أذكركم به : هو الحرب .
ما هي أكبر محنة دخلتها موريتانيا منذ عام 1960 ؟ يجب التذكير بها : هي حرب الصحراء .
مع أن تلك الحرب كانت تعني نهاية موريتانيا ، فقليلون هم الناس الذين عارضوها، . هالة النظام الحاكم وقوة التعبئة وتأطير السكان من طرف الحزب الواحد وميليشياته كانت بدرجة ليس من السهل تحديها ، وتعريض النفس للغوغاء المغرورين، ولغضب سلطة مطلقة . الهيستيريا العارمة التي هللت للحرب أبطلت منذ دجمبر 1975 كل هاجس لمعارضتها . في تلك الظروف القاسية بالضبط قال البعثيون والحركة الوطنية الديمقراطية : لا للحرب ، ولا للنهاية المحققة لموريتانيا . وتحالفا منذ ذلك الوقت لمدة ست سنوات .
أتذكر العبارات الدقيقة التي قلناها للمسؤولين في ذلك الوقت : ” إن تحالفا مع المغرب يعني أننا وضعنا أنشوطة في عنق موريتانيا وأعطينا الطرف الآخر من الحبل لمن هو أسرع منا مرتين” . بعدها مباشرة فقد البعثيون المناصب التي كانت عند بعضهم ، وأعتقد أن الحركة الوطنية الديمقراطية لم يكن لديها ما تفقده .
بعد سنة من الحرب ، حصل الشيء الذي لا مفر منه .. تبن بجلاء للسلطات الحاكمة أنه من الضروري ، بل من المستعجل ، إنزال القوات الملكية المغربية في بئر أم اكرين وازورات و أطار واكجوجت وانواذيبو .
في آخر سنة 1977 ، وصلت القوات المغربية في موريتانيا إلى اثني عشر ألف جندي ، بسلاح يختلف عن ما عندنا . اقتصاد البلد بات في الحضيض .. المؤسس والمدير العام لشركة “اسنيم” ، إسماعيل ولد أعمر ، صار يصرخ في غير طائل : “أوقفوا الدمار! ” . الهيستيريا المتفائلة تبددت وحل محلها الإحباط ثم الهرج. انسدت الآفاق بشكل مأساوي .
في نفس الفترة ، نهاية سنة 1977 ، رفع الرئيس السنغالي سينكور ، في مقابلة مع مجلة ” جون آفريك” ، الستار عن المساومات الجارية حول تقسيم موريتانيا المحتمل . بين من ؟ هذا ما ليس لغزا …..
أدرك البعثيون ، هشاشة موريتانيا وأنها مقدسة فقط عند أهلها ، وهذا ما يفسر – الوقت لم يحن بعد لتناول تلك الأحداث- رفضهم العنيد المتواصل لأي مغامرة ، مع أن الفرص المغرية (لم تنقصهم) . صوبوا الأنظار على هذا الاكتشاف ، هذا الضعف ، “هشاشة موريتانيا” هذه التي صارت لازمة أحاديثهم إلى درجة الاستغراق. ذلك ما يفسر ، دائما ، صعوبة انفصالهم عن أي نظام قائم ، حتى ولو كان مؤذيا لهم .
حتى في الفترة 1981 – 1982 ترددوا قبل أن يُقبلوا على المشاجرة مع هيدالة ، خشية أن تقود حالة سيئة إلى مأساة للبلد .
استمر الأستاذ “ممد” إلى آخر لحظة ، في وقت كان البوليس على وشك أن يمسك زنده ، وهو يوزع الوعظ يمينا وشمالا ويقول ” تأكدوا أنكم لا ترتكبون ذنبا في حق (هذا مخلوق الله) ، تأكدوا على الأقل أن من سيخلفه لن يكون أسوأ منه” . كان رفاقه يردون عليه بصوت واحد :” ليس هناك أسوأ منه”.
لو كان هيدالة قبل التنازلات اللازمة لإنقاذ نفسه وإنقاذ نظامه لسارت الأمور ، بدون شك ، على نسق آخر . عندما حصل التصويت على مستوانا ، كنت الوحيد الذي صوت إلى جانب “ممد” . انتهت اللعبة.
منهج هذه الجماعة هو دائما تفادي – وتعرفون أن هذا ليس سهلا في موريتانيا – الهيجان ، الاحتدام ، تفادي أن يُسَيِرَ حدث واحد السياسةً بأكملها ، وبالعكس ، العمل على أن تُسَيرَ السياسة الأحداث .
كان المنهج دائما هو تحمل شريك يسدد لهم النطحات على البطن ، ورفض التعامل مع أي محاب تكون صيغه وسياساته من شأنها أن تقود إلى تلاشي موريتانيا .
هذه الحركات العقائدية التي ملأت الدنيا في الماضي لم يبق لديها شيء يذكر من إيديولوجياتها الأصلية . الظلال المتبقية من الحركة الوطنية الديمقراطية MND ظلت خلال رحلة تكيفها مع الظروف تخفض كل شيء إلى هدف “الدفاع عن الوحدة الوطنية” حسب تصورهم لها .
بقايا البعثيين تحرص كل الحرص – وهذا غني عن القول – على مكانة اللغة العربية ولكن لا أحد يعرف متى ولا بأي معجزة تناسخ أو تشبه أصبحوا يـَـــزِنـــُــونَ الموقف الصائب بتوقف البكرة الزلاقة للميزان عند الخط :”الحفاظ على الكيان الموريتاني” .
حقا ، منذ مدة ، أصبحت هناك تحاليل تميل إلى تجاوز هذه العثرة. البعض ينظر إلى هذه التحاليل على أنها شطط ، بل وهوس ، بينما آخرون يرون فيها ، على العكس ، صرامة موضوعية لنظرة ثاقبة للواقع ، بدون تنازل مهما كان للذاتية . هذه المقاربة الجديدة تعيد إلى الأذهان أن الدولة أداة والمجتمع غاية وأنه من الضروري أن نتجنب ، من أجل رؤية صحيحة على مدى بعيد ، كل خلط بين الغاية والوسلية ، فأحرى أن نسقط في استبدال تلك بهذه . هذا التحليل يضيف – الشيء الذي ما زال يحتاج إلى تأكيد موضوعي ، دون تثبيت مجاني – أن الدولة منذ أن وجدت ، أي منذ حوالي 60 سنة ، عرفت تضخما هائلا رافقه ضمور بيٌنُ للمجتمع ، وأن هذا التضخم حصل على حساب المجتمع .
لم يعد ، في هذه الظروف |، من المثير للانتباه غياب أي نفوذ مضاد (سلطات توازن) وهذا ما يفسر سهولة قرار دخول حرب ، وكأنه قرار عائلي .
سلطات التوازن المؤسسية ، في الدول المتخلفة ، ليست شيئا . سلطات التوازن التي يفرزها المجتمع ، بشكل طبيعي ، هي وحدها التي تشكل حقيقة .
في الواقع ، كل ما يشكل فخرا للأجيال الماضية والحالية على طول وعرض غرب الصحراء الكبرى لا يوجد فيه شيء اسمه دولة . مجتمعنا لا يتذكر دولة صنهاجة وملوكها : تلتان ، و ترجوت ، وتلكاكين وغيرهم ، في حدود القرون من السابع إلى التاسع .
حقا ، إن رجالنا العظماء كانوا يتمنون وجود الدولة بكل إلحاح وغيابها يحزنهم . أحد رجالنا القلائل الذي يمكن تسميته بدون تردد ، بالعالِم ، الشيخ سيديا زينة زمانه كان كأنه يبكي من انعدام الدولة . سأكون منزعجا إذا ظننتم أن الشيخ سيديا مجرد شيخ محظرة أو مجرد رئيس أخوية صوفية . الشيخ سيديا بمعرفته ووعيه السياسي والتاريخي كان من جِبِلةِ مؤسسي الإمبراطوريات ، ولكنه سقط في وسط مجتمع قد وصل من قبله إلى مرحلة متقدمة من الانحطاط والتيه وكان عمرُه – لم ينه دراساته إلا في سن 58 – وزهده وشعوره بالفخر يمنعانه من إلحاح لن يكون مجديا .
لو كنا درٌسنا حياة الشيخ سيديا في المدارس لكان شبح الجُنُوحية قد ابتعد عنا كثيرا.
الشيخ سيديا كان ، علاوة على ذلك ، أبا ورائدا لمقاومتنا الوطنية . ليس هذا محل قول (كيف) . يجب أن نعرف تاريخنا .
أخي العزيز ،
علينا أن نتقدم إلى جوانب أخرى من رسالتكم .
يبدوا كأنكم تعتبرون الإشاعات المتداولة في “الإنترنت” ، أي من طرف الشارع ، معلومات يُطمأَن لها . أريد أن أطمئنكم ، إنكم مثل جميع الموريتانيين ، ويبدوا أن ذلك ليس فيه استثناء . الناس يغضبون ، ويتشاتمون ، ويتشاجرون على أساس خبر غير مؤكد . التحري والحذر لم يكونا في درجة أكثر إلحاحا من هذا الوقت الذي صار فيه القراء صحفيين مجهولين . الإعلام عبر الانترنت لا يمكن الاعتماد عليه وتصعب الثقة به . كيف تريدون أن تطلعوا على فكر كارل ماركس خلال حفل غنائي عملاق من الريكي ؟.
كانت الصحافة مهنة تحكمها منظومة أدبيات دقيقة ، أكثر إلحاحا ووجوبا في أذهان المهنيين من قانون عقابي . القانون نفسه يكمل بنطاق واق ، بترسانة شرعية ، تحمي الأفراد والمجتمعات والدول ضد انحرافاتها التي ليس أدنى شرها إمكانية إشعال حرب أهلية أو حرب بين الدول . مجرد تحريف كلمة في خبر كان كافيا لاندلاع حرب بين ألمانيا وفرنسا ( رسالة إيمس ) .
ليس من عادتي أن أصحح أو أن أنفي أخبارا خاطئة أو كاذبة أو ملفقة ، تبثها الانترنت أو أي مصدر آخر ، ولكن لهذه المرة أريد أن أخل بالقاعدة .
على سبيل المثال ، تقولون : “حسابكم” أو صفحتكم في “فيسبوك” . ليس لدي حساب من هذا النوع . إنه حساب مزور . ولكن أبادر لأضيف أن هذا ليس مأساة . من تعود على المقرعة والسوط لا تزعجه خشونة .
صفحة من هذا النوع لم تخطر ببالي مرة واحدة . في شرعي ، لفتح نافذة في سقف غرفة النوم يلزم أن يكون الشخص يرى من المُلِح أن يتوجه يوميا إلى الجمهور ويخشى أن تأتي أفكاره متأخرة على الساحة العمومية ، أو أن يكون شابا مستعجلا ما زال يبحث عن الشهرة ويزاحم ليقتحم الصفوف الأمامية ، وبكل استعجال يدخل الحفلة الراقصة المقنعة .. الغموض والبلبلة .
كما ترون ، أخي العزيز ، أبحث في جميع الاتجاهات لأعثر على عقدة اهتماماتكم ، لتفادي جواب استقصائي مُمِل ، يهتم فقط بالماهية . الفيلسوف الكبير ابن عربي ، الملقب ، بغير زور ، بالشيخ الأكبر ، يقول : من ينظر في مبدإ الأشياء وفي شكلها في نفس الوقت سيصل إلى المعرفة التامة .
أخي العزيز
تَمَلْمُلُكُم أو رَجٌتُكم ، أو وثبة إجفالِكم ، أمام الوضع الحالي أتفهمها ، ولكنكم على غير صواب إذا اعتقدتم أنني هادئ ، بمعنى غير مكترث أو غير واع . الكل صُنعُ وأسلوب يرجع إلى التربية ،والتعود والسن ، والسنُ ليست عددا من السنوات وإنما تراكم المشاكل والصعوبات التي مر بها الإنسان . في شبابي ، أحد أولئك الذين ربوني ، كلما رآني فريسة نزق أو غضب يوجه لي ، بنبرة من اللامبالاة الباردة ، التأنيب التالي : “حد إصب اتراب فسروال” . مع الزمن لم أعد أتمكن من ردة الفعل السريعة .
كما أنكم قائد لن أوجه إليكم الإرشاد الغامض السابق ، بل نصيحة أخرى.. إنكم فعلا قائد . القائد الحقيقي هو ذلك الذي ، من دون أن يكلفه أحد بشيء ، يتحمل مشاكل الآخرين ، أي المجتمع . الزعماء المكلفون بمهمة ، أو المؤقتون ، أصحاب مسؤولية محددة ، أولئك “مسؤولون” . ذلك شيء آخر .
بصفتكم قائدا – نصٌبه ضميره فقط – أريد أن أذكركم بشيئين . أولا : التعليم الآشانتي ، المملكة القديمة في غانا ، الموجه لأمرائهم : “بلطف ! بلطف ! .. الزعيم عليه أن يمشي بلطف !” . المسألة الثانية هي حكمة صينية : “زلة قدم يسدد مقابلها ندم أبدي” ، والمثل العربي يضيف : “الخطأ زاد العجول!”.
إن حرصكم الشديد على انسجام الأمور، إذا كنت قد فهمت ، لا يتقبل ولا يستوعب الأمور الفضفاضة والحلول الأولية أو فضلات الحلول. ولكن عليكم أن لا تنسوا أنكم في مجتمع من النمل. ولا أعني هنا الأسطورة القديمة ، عندما كانت الأشياء تترتب عند الوجود . النملة ، حسب هذه الحكاية التكوينية ، قد سرقت معاش اليتامى . لعقابها ربطت بطنها إلى درجة أن جسمها اختُزِل في رأس ومؤخرة .
للعنتها ، قضي عليها بالتجوال الدائم بحثا عن الطعام وتخزينه ، وأنها لا تستفيد أبدا ، حسب ما يقال ، من هذا المعاش نتيجة لفقدان البطن.
الشيء الذي في صلب الموضوع والذي خبرونا به ، منذ مدة قليلة هو ما يقوله إخصائيوا العلوم الطبيعية . كنا نعتقد إلى زمن قريب أن مجتمع النمل عامل وماهر ومنضبط . تبين أن ذلك غير صحيح . اكتشف إخصائيوا الحشرات أن ثلث المنملة فقط هو الذي يعمل وثلث آخر لا يشتغل – هذا يذكر بنا – والثلث الأخير ، قد تكونوا تعرفتم علينا ، يخرب ما شيده الثلث الأول .
في مجتمع مثل هذا عليكم أن تحافظوا على أعصابكم .
الشيء الأكثر إزعاجا هو أن الشيخ سيديا يذكر ، في بعض تآليفه حديثا نبويا معناه أنه سيأتي زمان ، يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع ، أي اللئيم بن اللئيم .
أترك لكم تقدير المدة التي تفصلنا عن هذا الزمان .
أعتقد أن الوقت حان لإنهاء هذه ” الإحالة بالاستلام” ، وأنا أشعر بالإفراط في استغلال صبركم . قد أكتب لكم ، ربما فيما بعد ، إذا لم يهدأ بالكم قبل ذلك .
ليس عندي علاج لما يهمكم ويثير ذهنكم ، وهو ربما ، كل ما يتميز بميسم عدم التناسق وعدم التبصر.
المهم ، في كل الظروف ، بالنسبة للشخص ، هو عدم التيه من منظور الواجب . بالنسبة للبلد الأمر أكثر بساطة – وهذا لا يعني أكثر سهولة – منذ أن عرفنا أن الحكمة تكمن في إعطاء كل شيء مكانته .

مع الأخوة

محمد يحظيه ابريد الليل

Exit mobile version