حين قدم إلي أخي الضابط السابق الأستاذ محمد سعيد (الداه) بن الحسين كتابه هذا والتمس مني مشكورا قراءته وتقديمه، توقعت أن يكون مجرد مذكرات شخصية، وكان لدي من الفضول ما يحملني على استكشافه لأتعرف من خلاله على أخي علمت من خلقه وتضحيته واستقامته ما علمت، لكني كنت أشعر بأنني لا أعرفه بما فيه الكفاية . وكذلك كان فقد كفت لي هذه الورقات عن جوانب كثيرة من شخصية كانت بها؛ جوانب كنت أجلها رغم سابق معرفتي به وبمحيطه الكريم. وما إن تقدمت شوطا يسيرا في تصفح الكتاب حتى أدركت أن الكتاب ليس مجرد سيرة ذاتية تتيح متعة التعرف متعة التعرف بكل أدق على شخصية وطنية وإنما هو أيضا كتاب تاريخ وفكر.
الملامح العامة التي ترتسم في الذهن عن صاحب الكتاب هي ملامح رجل طموح جاع صبور مكافح. عاض على مبادئه بالنواجذ، فابن الحسين هو-كما تكشف مذكراته-أول ضابط مستعرب يلج الجيش الموريتاني بعد أن كان لسنين حمى محميا لخريجي المدرسة الفرنسية. حجرا محجورا على من عداهم. كانت لحظة مصلية تلك اللحظة التي خاطب فيها الرئيس الأسبق معاوية بن سيدي أحمد الطائع، وهو يومئذ قائد مساعد للجيش، محمد سعيد بن الحسين قائلا:”لقد أن الأوان لأن تدخل العربية في الجيش الوطني”!كان دخول محمد سعيد إلى الجيش حلما من أحلامه العتيدة بعد أن تكون في سوريا وألماني، وكان بارة لآخرين من ذوي الثقافة العربية ، ظل لسانهم لحين من الدهر حجابا بينهم وبين جيش بلادهم.
كان ابن الحسين عائدا من سوريا التي أرادت أن تحتفط به للخدمة في جيشها، غير أنه فضل العودة إلى بلد كان فيه من الزاهدين لكنه بلده. مكث أعواما ينتظر فبل أن يحصل على مهنة غير التي تكون من أجلها وتاق إليها. ولما اندلعت حرب الصحراء ورب ضارة نافعة. انفتحت له ولآخرين بها أبواب المؤسسة العسكرية الموصدة. ومع ذلك يكشف لنا الكتاب برم أول ضابط موريتاني مستعرب بهذه الحرب التي قال بشأنها: “أشعر بالألم الشديد والامتعاض من هذها الحرب التي يقتل فيها الأشقاء بعضهم بعضا، فكانت مشاهد تصعب على نفسي، ليس جبنا وإنما حرصا على الكرامة والشرف وأرواح أبناء جلدتي” وتبرز المذكرات حرص الضابط الملحق بالجيش على أن يمارس عمله بمهنية وشرف وشجاعة، فقد كان-كما يذكر- الوحيد الذي تحرك ليلة هجوم البوليزاريو على نواكشوط لينقل الريس السابق المختار بن داداه لا إلى سجن وإنما إلى مأوى آمن، وكان صاحب المبادرة في التخفيف من ظروف السجن القاسية لأسرى البوليزاريو في الجريدة وقد اعترض بقوة على قتل أسير صحراوي، ورفض اعتقال الجيش لأصحاب سيارات مدنية يعتاشون منها، وقال في حق الوزير السابق د. عبد الله بن اباه سجين الجريدة يومئذ، رحمه الله “لن يسجل علي التاريخ أنني أهنت شخصا محترما بسبب أنه سجن بعد سقوط النظام الذي ينتمي إليه”!
ولعل القارئ سيفاجأ أكثر من مرة حين يسبح في فضاء المذكرات. سيفاجأ، مثلا، حين يكتشف أن “الضابط البعثي” التي تقدمه المذكرات كان ضد الانقلابات، فهو لم يشارك في انقلاب العاشر من يوليو، وهو ينتقد أداء القادة العسكريين بعد ذلك الانقلاب، ويعلن أنه رفض المشاركة في مشروع انقلاب للضباط للضباط الصغار، قائلا لمن اقترح عليه المشاركة فيه “هل تريد أن يتقاتل أبناء موريتانيا؟” وإلى ذلك كان ابن الحسين قائد جناح عسكري أدى الدور الأهم في التصدي لمحاولة انقلاب 16 مارس 1981، وكان رفاقه، يومئ متحكمين في مفاصل العديد من الأجهزة العسكرية والأمنية الأساسية، ومع ذلك تعففوا عن تسلم السلطة، بل إن ابن الحسين نفسه يعلن أسفه على الانقلاب على منن سجنه وشطبه من الجيش، قائلا: “الحل ليس في الانقلابات، الحل في احترام الدستور، والالتزام بمأمورية الرئيس واللجوء للنهج الديموقارطي وإبعاد الجيش عن السياسة”، وهو يعتبر هذا الموقف موقفا عاما للحركة التي ينتمي إليها حيث يقول إن البعثيين “لم يسرقوا ولم يعتدوا على أحد (…) لم يظلموا أحدا ولم يهينوا أحدا، لم يقوموا بانقلاب ولم يحاولوه في يوم من الأيام، رغم الظروف المواتية التي صادفتهم أكثر من مرة”، هذا بالرغم ممايتشف من خلال الكتاب ومن شهادات آخرين من دور ملموس علي انقلاب العاشر يوليو1978 لبعض القادة البعثيين من مدنيين أو من عسكريين سيكونون بعثيين فيما بعد.
ومع ذلك تبقى صورة الضابط البعثي “أعلق بالأذهان عن محمد سعيد بن الحسين لا لأنه كما يقول كا أول ضابط مستعرب يدخل المؤسسة العسكرية الموريتانية فحسب، وإنما لأنه يباهي أيضا بكونه أول موريتاني ينتمي للبعث خارج موريتانيا، ولأنه يفاخر بدوره في تأسيس أول حلقة بعثية داخل موريتانيا ولأنه بسبب انتمائه السياسي، عانى الأمرين: قطع الأرزاق وشد الوثاق: بيد أن تصفح هذه الورقات يكشف للقارئ عن ملامح أخرى لشخصية متعددة الأبعاد فقبل أن يكون صاحب المذكرات ضابطا بعثيا كان ممن شاركوا في تأسيس مدارس ابن عامر وكان أحد خمسة طلاب رواد في مصر،وكان من العاملين في الحقل الصحفي من خلال “الحقائق” التي أسسها المرحوم بياكي بن عابدين و”الوحدة” التي أسسها الأستاذ محمد محمود بن اماه حفظه الله، وسهر على نشرها فيما بعد المرحوم باهي محمد. وحين صار بعثيا وقبل أن يلج الجيش كان طموحه أن يفتح مدرسة جرة، ثم كان مراقبا عام في الثانوية الوطنية وغيرها، ولم يمنعه ارتباطه الوظيفي الرسمي من قيادة أول مسيرة لنصرة القضية الفلسطينية في البلاد.
وثمة ظلال أخرى، “تلون صورة الضابط البعثي” وتعطيها نكهة دينية خاصة، فهوي يعلن أن يوم كان يقيم بدمشق كان يحضر مجالس دورية تعقد في باحة المسجد، يحاضر فيها ميشيل عفلق، مشيرا أنه كان يكرر مقولته الشهيرة “كان محمد كل العرب فليكن كل العرب اليوم محمدا”، (صلى الله عليه وسلم) وكان ابن الحسين يريد أن يقول أن حزب البعث الذي اعتبر خصومه من اللا دينيين رسالة “في ذكر الرسول العربي” بيانا تأسيسا له قد نشأ حضن المسجد يشي ذلك الاستشهاد بحس ديني يحرص المؤلف على تأكيده في غير ما موقع من الكتاب فهو يعلل انتماءه للبعث بأنه لم يلحظ “فيه شيئا إلحاديا أو أمرا يناقض الدين” ويمضي أبعد من ذلك قائلا:”لا قومية عربية بدون إسلام” مستشهدا بقول الشيخ إبراهيم إنياس الكولخي “إن الإسلالم يبقى ببقاء العرب ويقوى بالمسلمين من غير العرب”. وحين يتحدث عن تدخله لتحسين أسرى البوليزاريو، يعلل ذلك بما أحس به من ألم لحالهم بصفته “مسلما وعربيا وإنسانا”. وهو يحتج في ثنايا مذكراته على ما قامت به الحكومة من “إغلاق معظم الهيئات الخيرية الإسلامية”، مستغربا “ترخيص النظام قبل ذلك وبعده للكثير من معظم الهيئات غير الحكومية التنصيرية الأوربية والأمريكية، لتحل محل الجمعيات الخيرية الإسلامية، ولمحاصرة الإسلاميين ماديا”. وهو يكشف عن خلق نبيل آخر عندما يصرح بأنه لا يحمل ضغنا لأحد رغم ما وقع عليه من ظلم. وفي السياق ذاته سياق الوعي الديني، يندرج ما يتصمنه الكتاب من مشاعر التقدير والإعجاب بالداعية الكبير الشيخ محمد سيدي يحيى وبما كان لدعوته ممن إيجابي.
وهكذا فإن “عقائدية” هذا الضابط البعثي الذي قلب الطلب في حفل زفافه مؤثرا الانخراط في نقاش سياسي على طقوس الاحتفال بالاعراس، بدت موزونة بقسطاس من الموضوعية، مؤطرة بحس ديني خاص، لعل من تجلياته أيضا ممارسة النقد الذاتي وحرصه على الإنصاف والأمانة في الحكم على بعض المخالفين وعلى آخرين من الشركاء في الوطن. من ذلك ثناؤه على مجموعة من شباب الكادحين رغم اختلافه السياسي معهم، وإشادته بالرئيس الأول المرحوم المختار بن داداه، وذكره مآثر بعض رموز الأنظمة التي اختلف معها. ونجد تلك “العقائدية” محكومة بنقد ذاتي صريح حين نقف على قوله: “أعبر عن امتعاضي الدائم من بعدنا كقوميين عرب من إخوتنا الزنوج (…) وأعتبر هذا تقصيرا ونقطة ضعف في مسارنا السياسي كقوميين”، وهو موقف يجد له بلا ريب سندا قويا في التزامه الديني.
ولئن طغت في الكتاب أصداء الخلاف مع الزعيم أحمد بن حرمه بابانا بشأن تجنيد بعض الشباب في جيش التحرير على أصداء المواقف الوطنية والررية المشهودة لهذا الزعيم، فإن الكتاب يمتاز مع ذلك بما يحمل في طيات من شهادات منصفة بحق العديد من الشخصيات الوطنية منها على سبيل المثال لا الحصر الرئيس المختار بن داداه، والأمير محمد فال بن عمير، وباهي محمد، وبوياكي بن عابدين، وأحمد بن أعمر، وبارو عبد الله، ومحمدذن بن باباه، ومحمدو بن محمد محمود، ومحمد بن الشيخ بن عثمان، ويحيى بن منكوس، وأحميديت بن العاقل، وأحمد بن الدي، وحمدي بن مكناس، واسحاق بن الراجل، والرئيس أحمد بن داداه، وسيدي محمد بن الشيخ عبد الله…
الحديث عن تلك الشخصيات وأضرابها هو جزء بارز من ملمح كتاب التاريخ في هذه المذكرات وثمة جزء آخر يكتشفه القارئ في رصد الكتاب لأحداث فارقة على المستويين الوطني والعربي، منها تأسيس الاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا وميلاد حركة القوميين العرب وحركة القوميين الأفارقة (افلام) وحركة الكادحين وعدد من الثورات والانقلابات في الوطني العربي وعبر هذا وذاك لا تخلوا صفحات الكتاب من فكر لعل أبرز معالمه ذلك النسغ السياسي الساري في مفاصل الكتاب، تنضاف إليه مواقف ورؤى متعددة المجالات يتنقل بك الكتاب فيها بين المحضرة والهجرة والقانون العقاري والمخاطر التي تواجه التراث، هذا إلى نصائح حرية بأن تسمع بشأن الوحدة الوطنية، ورفع الظلم عن المهمشين والتمسك بالثوابت الجامعة.
***
بالطبع قد تكون بعض الروايات التاريخية التي يتضمنها الكتاب، وبعض الأحكام بشأن بعض الأشخاص الذين يتحدث عنهم الكتاب محل نظر ومثار حرج عند آخرين وذلك شأن الكتاب ومسئوليته ونتاج شجاعته وجرأته على الشهادة عن عصره وجيله. وفي ذلك مدعاة لحث آخرين على الكتابة والإدلاء بشهادتهم على العصر الذي عاشوه والجيل الذي كانوا منه. وما لم نمتلك جرأة الكتابة والرد والمناقشة ومقارعة الحجة بالحجة، ومعارضة الخبر بالخبر والرواية بالرواية، وموازنة الرأي بالرأي، مع جرعة من فقه الاختلاف السوي والأمانة العلمية فإن تاريخ بلادنا لن يكتب على الوجه المأمول.
ومن هذا الوجه يعتبر هذا الكتاب خطوة جريئة لتسجيل صفحة في سجل ذلك التاريخ الذي لن تكتمل فصوله إلى بقدر ما يكتبه الآخرون.
والله ولي التوفيق،،،
الخليل النحوي