مَشْرُوعُ التًعْدِيلاَتِ الدُسْتُورِيًةِ..المَسَارُ و الآَفَاقُ

لا حديث ببلادنا يعلو هذه الأيام الحديث عن مشروع التعديلات الدستورية التي من أهم معالم “عرض أسبابها” و أسباب نزولها “شبه إجماعيةُ” مبدإ واجب اتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل عقلنةِ وترشيدِ و مقروئية المؤسسات الدستورية و ضرورةُ مزيد ترسيخ قيم و مُثُلِ المواطنة إضافة إلي “أَنْسَبِيًةِ” تقريب الخدمات الإدارية من المواطن من خلال خلق مستوي ثان من الوحدات الإدارية اللامركزية يضاف إلي المجالس البلدية متمثلا في المجالس الجِهاَتِيًةِ.
و سأكتفي في مقال هذا المقام النخبوي العالي من العلماء و الوجهاء و رجال و نساء الفكر و السياسة و الثقافة و الإعلام المتواجدين لحضور فعاليات الندوة المنظمة من طرف “منصة الطموح الشبابي من أجل الوطن” بمحاولة توضيح أبرز مميزات مسار تحضير و إعداد و تمرير مشروع التعديلات الدستورية قبل أن أغامر ببعض القراءات الاستكشافية لفترة ما تبقي من المحطات الدستورية للمصادقة علي مشروع التعديلات المذكورة و مرحلة ما بعد التعديلات الدستورية.
فبخصوص مميزات مسار تحضير و إعداد مشروع التعديلات الدستورية فمن أبرزها:
أولا- اعتماد المقاربة التشاركية “شبه الموسعة”: يبدو واضحا من مسار “إنتاج” مشروع التعديلات الدستورية أن ذلك المسار اتبع مقاربة تشاركية تشاورية متأنية “شبه موسعة” ذلك أن رئيس الجمهورية رغم أن الدستور يخوله حق اقتراح التعديلات الدستورية من غير سابق تشاور و لا تنسيق فإنه دعا في بداية مأموريته الرئاسية الحالية من مكان ذي رمزية جامعة(شنقيط) جميعَ الطيف السياسي إلي حوار سياسي جامع من دون سقف و لا محاذير و لا “محاكمة للنيات” وذلك ابتغاء التوافق العريض أو الإجماعي علي مراجعة و تنقية المنظومة الدستورية و المدونة الانتخابية.
و استغرق التحضير للحوار المطلوب ،قرابة نصف العهدة الرئاسية، ما ناف علي عشرين شهرا( نوفمبر 2014- أكتوبر 2016) حتي حضره قطب الموالاة بأكمله و جزء عريض جماهيريا و رصيدا نضاليا من المعارضة “الوطنية” بالإضافة إلي العديد من فعاليات المجتمع المدني و النقابي و الشخصيات المستقلة و الشخصيات ذات ” المقام المرجعي” و غاب عنه مأسوفا عليه طيف وازن من الأحزاب و المنصات المدنية و الشخصيات المستقلة المنتسبة للمعارضة الديمقراطية.
ثانيا – الخُلُوُ من المواضيع “عالية الاستقطابية”: تميز مشروع التعديلات الدستورية بالخلو من المواضيع التي يمكن نعتها “بالاستقطابية” و التي ظن الكثير من المحللين الوطنين و “حَسِبَ” العديد من المراقبين المترقبين المتربصين ” من وراء الحدود” أَنْ لَنْ تَخْلُوً مواضيعُ و مخرجاتُ الحوار السياسي منها كإعادة تأسيس الوحدة و اللحمة الوطنية و العقد الاجتماعي الوطني و إسقاط مبدإ تحديد سقف المأموريات الرئاسية وتدشين الجدل حول تسمية البلد ولغته الرسميةو “الفيدرالية الظاهرة” و “الفيدرالية المُسْتَتِرَةِ”،…
و هكذا يبدو مشروع التعديلات الدستورية “شبه إجماعي” يختلف المختلفون و يتجاذب المتجاذبون و يتنابز المتنابزون أكثر علي توقيت و ظروف و بيئة تقديمه أكثر من اختلافهم و تجاذبهم و تنابزهم علي مبدئه و مُنَاسَبِيًتِهِ و وجاهته.
ثالثا-الدور المحوري للبرلمان: تابع الموريتانيين باهتمام كبير -متابعة من يكتشف الأمر لأول مرة- الدور المحوري للبرلمان المتمثل في ما يخوله الدستور الموريتاني (المادة 99) للبرلمان من سلطة و صلاحيات الإذن بالقبول المبدئي لاقتراح الدستور و الذي يتطلب الحصول علي ثلثي(66% ) أعضاء البرلمان من خلال تصويت منفرد لأعضاء الغرفتين (الجمعية الوطنية و الشيوخ)مسبوق بنقاش معمق شاهدنا منه “المشهد الأول” بالجمعية الوطنية فكان “درسا ديمقراطيا بامتيازّ”.
و يجسد الدور المحوري للبرلمان في “الإِذْنِ المُعَسًرِ” (أغلبية الثلثين)لقبول عرض مقترح تعديل دستوري وارد من رئيس الجمهورية علي مساطر المصادقة البرلمانية أو الشعبية شاهدا هاما و برهانا ساطعا علي نضج النموذج الديمقراطي القائم علي “توازن متطور” بين السلطتين التشريعية و التنفيذية.
رابعا-التسخين السياسي و الإعلامي من طرف بعض شركاء الهم الوطني:يعرف المشهد السياسي و الإعلامي تسخينا متمثلا في المظاهرات و” النفخ في الشائعات”و الصالونيات و المواقعيات و “الهاتف العربي”،.. من طرف الفعاليات السياسية المنتمية لقطب المعارضة الذي قاطع الحوار الأخير، كما قاطع حوارات و استحقاقات سياسية و انتخابية من قبلُ ،و هو تسخين متوقع و مفهوم ما دام ضمن ضوابط و روابط الفضاء القانوني و التنظيمي “الرحب” (الذي يسع الجميع) للحريات السياسية و الإعلامية بالبلد.
لكن التسخين المذكور يكون مستغربا كلما لم يُرَاعِ و لم يَرْقُبْ إِلً و لا ذمة و لا ضرورات العزل و الفصل مع أجندات بعض المنصات السياسية و “الحقوقية” غير المرخصة والتي تستغل غالبا “لحظات الاستقطاب السياسي الحاد” كي تنفث سمومها العنصرية و الشرائحية و المناطقية و الشوفينية،..
خامسا- مزيدُ ترسيخِ النموذج الديمقراطي الموريتاني: يعتقد بعض المحللين أن مشروع التعديلات الدستورية شكل مناسبة لتعزيز و ترسيخ النموذج الديمقراطي الوطني و ذلك من خلال ما هو ملاحظ من تمكين النموذج الديمقراطي الوطني فرقاء الهم السياسي من إدارة الخلاف السياسي الحاد الحالي وفق الضوابط و الآليات الديمقراطية المنصوص عليها بالدستور و القوانين و النظم المعمول بها في البلد.
أما فيما يتعلق بالقراءات الاستكشافية لما تبقي من فترة المصادقة علي التعديلات الدستورية و مرحلة ما بعد التعديلات الدستورية فيمكن إجمال أبرز “تضاريسها” فيما يلي:-
1.التصويت بالإذن بالتعديل الدستوري من طرف غرفة الشيوخ: من المتوقع أن يصوت الشيوخ علي الإذن بالتعديل الدستوري و ذلك قياسا علي أن “الصالونيات” التي يروج لها البعض هي نفسها التي كان يروج لها بخصوص تصويت بعض نواب الجمعية الوطنية المنتمين للموالاة و المنتسبين المعارضة المحاورة فجاءت مخرجات صناديق الاقتراع انضباطا حزبيا و تناغما سياسيا وشيئا من “تنوع الآراء” لا اختلافها محكوم و مضبوط بسقف قاعدة أن “الراي للفرد و الموقف للحزب”؛
2. المصادقة علي التعديل الدستوري وفق إحدي ” الطريقتين”: سيتم في عاجل الآجال المصادقة علي التعديلات الدستورية وفق إحدي الطريقتين (المؤتمر البرلماني، الاستفتاء الشعبي).
و يجدر التنويه إلي أن كلي الطريقتين سليمة دستوريا و سياسيا و تتمتع مخرجاتهما بنفس القوة و الحجية و المشروعية كما أن لكل منهما سلبيات و إيجابيات وإذا كان من سلبيات المؤتمر البرلماني أنه يحرم بعض المواطنين من التعبير الانتخابي عن مواقفهم فإن من سلبيات الاستفتاء الشعبي طول المساطر التنظيمية و الإجرائية و ارتفاع الكلفة المالية كما أن البعض يري أن الاستفتاء الشعبي يكون أشبه بالسباق مع النفس إذا تأكد ما يجاهر به بعض المعارضين للإصلاحات الدستورية مسبقا من مقاطعة الاستفتاء الشعبي.
3.انطلاق المسلسل الانتخابي ما قبل “الانتخاب الأكبر” : ينص الاتفاق السياسي بين الموالاة الموسعة و المعارضة المحاورة علي الشروع في المسلسل الانتخابي بعد المصادقة علي التعديلات الدستورية و شخصيا أتوقع أن تبدأ في أسرع الأوقات الاستعدادات الفنية لانطلاق المسلسل الانتخابي الذي يتوقع الكثير من المراقبين و المحللين أن يشمل انتخابات بلدية و جهوية 2017 و انتخابات برلمانية 2018 و انتخابات رئاسية 2019.
4.هبوط درجة حرارة التجاذب السياسي أو التأزيم السياسي بلا سبب: لا يستبعد المتخصصون في “رصد أحوال الطقس السياسي” أن تهبط درجة سخونة المشهد السياسي و الإعلامي بعد المصادقة علي التعديلات الدستورية و أن تتركز و تنحصر جهود الأحزاب السياسية علي التنظيم و الحشد الجماهيري استعدادا للاستحقاقات الانتخابية القابلة؛
5:المشاركة السياسية الواسعة بالاستحقاقات المحلية و البرلمانية المقبلة: ألسنةُ العديد من المحللين السياسيين رَطِبَةٌ من أن “مقاطعة الحوارات لا تعني مقاطعة الانتخابات” كما أن المعارضة الوطنية راكمت من تجارب مقاطعة الانتخابات المحلي منها و الوطني ما يجعلها تخرج بخلاصة خطإ مقاطعة الانتخابات عموما و الانتخبات المحلية(البلدية و الجهوية و النيابية) خصوصا.
لذلك فإن الاعتقاد واسع بأن الانتخابات القابلة ستشهد مشاركة واسعة من الطيف السياسي الوطني يؤسس لمشهد بلدي و جهوي و برلماني تعددي تعددية ترسخ و تجذر أكثر فأكثر النموذج الديمقراطي الوطني الذي من الجائز الأملُ و الحلمُ و الدعاءُ بأن ينتج انتخابات محلية و برلمانية و رئاسية “بيضاء من غير سوء انتخابي” ، نقية طاهرة يهنئ المغلوب راضيا الغالب بنتائجها ساعتئذ سيكون نموذجنا الديمقراطي مثلا يحتذي و درسا يدرس بالمنطقتين العربية و الإفريقية.

المختار ولد داهي ، سفير سابق

Exit mobile version