لم يكن القضاء يومها لامعا كما لم يكن أي يوم ،ورغم ما أتيح للقضاة من وسائل لمواجهة ضغط الظروف المعيشية قياسا بالقطاعات الأخري ،فها هو اليوم وفي مجابهة مفتوحة مع المصداقية يعود أدراجه معبرا عن ضعف في إرادة نخبة اتيحت لها الظروف والشروط للمشاركة في النهوض بقطاعها ، ليسوا بمفردهم ، ،لكن بواسطة جهود الطبقة السياسية لإصلاح القضاء عبر ضغوطاتها القوية على كل نظام على حدة من الأنظمة المتعاقبة . وفي كل ما مضى من الأيام لم يظفروا بالمنشود بعد ـ لكن الطامة الكبرى ـ أن القطاع نفسه ليس طرفا فعالا في تلكً الضغوط . إستقلالية القضاء إحدى مؤشرات الدولة الوطنية وقد ظل مطلبا رئيسيا وفي مقدمة شروط الإصلاح السياسي في بالبلد وهكذا دفع إلتزام نخبتنا به إلى الوصول إلى تلك التحسينات الجليلة،التي لم يتنسمها القضاة للأسف الشديد ، أو لم يروها مجهودا ثمينا بل ولم يقدروا دورقطاعهم في توازنات المؤسسة الوطنية حق قدره .
الدولة بصفة عامة أول ما تقوم عليه هو عدالة القاضي قبل عدالة الحكام ، وفِي المأثور ” أن الدولة تقوم على الكفر ولا تقوم على الظلم” ،والدولة الحديثة بدورها تقوم على فصل السلطات وعندما يكون القضاة أكفاء يكفي بالأساس المصادقة على المبدأ لينتزعوا مثل بقية الفاعلين مصداقية واستقلالية قطاعهم ، بسواعدهم ،وبكلمة أوضح ينتزعوا نصيبهم من النظام العام لمصلحة عدالة المجتمع والدولة، لكن مرة أخرى وللأسف لم يكن هناك تجل ملموس لجهد جماعي أو فردي يصب في ذلك المنحى من قضاتنا المرموقين ،رغم أن القاضي محاط بحماية كبيرة في التشريع ،ولنقولها بشكل أوضح حصانة من المجتمع والقانون تمنحه هامشا واسعا من حرية التصرف المطلقة أثناءتأديته لمهامه العدلية ، فلا يمكن اتهامه حتى ولو أخطأ عن تعمد أو تساهل ،وإلى اليوم تعد زيادة دعم القضاء والتشديد على مبدأ استقلاليته مطلب مشاع بين كل من هب ودب من السياسيين والحقوقيين والمجتمع المدني وحتي المستثمرين الأجانب والشركاء الخارجيين وأحد أهم وأبرز شروط الإستثمار .لقد دفع كل هذا الاهتمام بالقاضي إلى أن حاز السبق في خزينة “المجتمع ” وهنا يجب أن ألتمس العذر من عزيز الذي هي في حقيقة الأمر خزينته منذأن تولى الحكم ـ حيث أن راتب القاضي ضمن الرواتب الأعلى في البلد، بل ويكاد يكون أكبر راتب أساسي ومع ذلك ظل جهد القضاة الدؤوب، البحث عن الواجهة والوظائف .
وقد انعكس ذلك الأمر سلبا على المهنة نفسها وتحول القضاء برمته خاصة في القضايا التي تهم “الدولة” إلى قضاء واقف ولم يعد هناك قضاء للمجتمع ،بل توشك التقسيمة التقليدية للقضاء التي تشكل حماية لجملة المتقاضين أن تذوب عندنا .فالكل يعمل بالأوامر في المحصلة .وهكذا عندما لا يكون النظام السياسي جاهزا يجد القضاء نفسه مجبرا على التنازل عن استقلاليته ويسقط ذاك الجلباب المهيب على الأرض، وكأن القضاء ملأ رئته بقدر ما استطاع من تجاهل كامل للوضع القائم والمحيط بهذا الملف وبهيبته ونطق بالحكم على أنفاس الكافة لتنداح الخيبة فوق رؤوس الآلاف ،وهم ينشدون -وفي حشود تزهو وتزدهر في الإيمان بوضوح وعدالة الحكم المناسب في مثل هذه الحالة والقائم بذاته منذ14 قرنا أو هذا إعتقادهم الجازم ـ العدالة دون جدوى . كانت الضجة تفيض بالحنق والكآبة ، ولَم تحتمل الجماهير الغاضبة الحكم ،ليس لأنه عادل أم جائر ، بل لأنه مستغلق على الفهم ويصعب تخمينه أصلا ، أو على نحو أوضح يثير التساؤل عن ما الذي دفع بالقضاء إلى اتخاذ هذاالموقف الصعب ، الذي يسعي في تتبع لطيف لمسطرة قتل الملف في دوامة التشكيلات المختلفة . فلماذا وفي هذاالوقت بالذات يجنح القضاء لعدم الفاعلية ؟ أليس هذا من خارج رؤيته ! لا يوجد تفسير آخر سوى أن القضاء لا يريد القيام بعمله ويتحمل باستمرارـ تبعات الموقف السياسي في تجن بالغ على نفسه،وكأنه يؤكد أن الحكم المناسب هو ما يفيض به الشارع الذي يستند على فتاوى العلماء ، لكن النظام المضطرب ليس جاهزا ، وهكذا يريد القضاء أن يمنح السلطة السياسية مزيدا من الوقت على حساب مجرى العدالة على افتراض صحة وتناسب ما صدحت به المحاكم السابقة . فهل هناك خطأ ما تطلب تنقيحه كل هذا الوقت من الزمن أو مثل هذاالحكم ،بل أن نهاية أي تقاض في أي جريمة تستحق الإعدام هي مكتب الرئيس ليصادق عليه أو يرفض ، وهنا سيكون الممر الفاصل بين البنك المركزي والرئاسة مسرحا للمظاهرات للضغط على ولد عبد العزيز الذي سبق وأن التقى جحافل المتظاهرين الغاضبة في ثاني جمعة غضب، بحماس كبير وفي تجاوب يوحي بتلبية مطلبهم بإنفاذ الشرع وكأنما نطق الحكم عبر الجمل الطقسية المعهودة التي يدلي بها باستمرار في حالات مماثلة من الهيجان الذي يثيره المساس بالمقدسات مثل قضية المصحف الشريف التي ذابت بأسرع من المتصور، والربيع العربي وموضوع التنقيب عن الذهب …….مؤكدا أن العدالة ستأخذ مجراها وأن القانون سيتم تطبيقه، لن يتمكن والحال على ما تقدم حينها من أن يلوذ بمستشار ” الصدراية ” الذي صار من مألوف عادته لقاء الجماهير وأخذ تظلماتها إلى الرئيس ،بل سيواجه مصيره في هذا الملف بنفسه .
. إن العدالة لاصديق لها من الأنظمة العسكرية مهما كان جِلْبابها، لكن القضاء المسؤول أيضا ليس درعا ولاترسا لأحد ومهمته هي إحلال العدالة ، ويجب عليه والأمر كذلك أن ينهي عمله ويعطي حكما معللا وواضحا بالقضية .خاصة بعدما قطعت جميع مراحل التقاضي مع “بيات” طويل عند كل مرحلة من تلك المراحل .إن ولد عبد العزيز بنفس الأسلوب صار ممسكا بالفضاء ضمن سيطرته على الدولة كلها ، ويقسم صكوك الإذعان مقابل المصالح على الجميع لأجل تسيير البلدوفقمصلحتهالشخصيةاليوميةوليس لأجل التراكم ، وهكذا صار القضاء يماطل حتى يعلن عزيز عن الوقت المناسب وعن طبيعة الحكم قاسيا أو مخففا ، ويجب على الحكم رغم أنف الكل أن يتواءم مع رغبته التي يحددها هو لا غيره.
لقد حصل عزيز ـ بسبب سعد الطالع أو لسوء الحظ والزمن القادم كفيل بشرح ذلك ـ على أحداث ” دلفينية” تحتضنه لتخرجه من الأزمة أو لتراكم عليه الحنق “وعادة ما يخرجها بأعجوبة صغيرة يعطيها (لا هوتيو المخزن ) ـ تفسيرا رائقا “عنايةإلاهية” وليكن ، ولتكن هذه أيضا عطية أخرى من الله لعزيز يستخدمها لمصلحته ، يعني للمتاجرة بالتأكيد أمام معضلات يفرضها عقد ونيف من التسيير الشخصي الغامض للمال العام وللفرص . وهنا ،وعليه يمكن أو يجب قياسا لقضية ولد امخيطير بالقضايا السابقة التي تتحول من أزمة للنظام إلى فرجة ، على ما جرت به العادة إلى اليوم ،حيث يسعى عزيز عبر ترك الحال على ما هو عليه ، لتسيير هذاالشحن العاطفي الهادئ وهذه الورقة كبيرة التأثير ليحصل على دعم جماهير انواكشوط الذي يأخذ بروحه في مواجهة أزمة أدق ، مع المعارضة أو مواجهة ضغط إرتفاع الأسعار أو الضرائب أو غيرها. فكما استغل افتياتا ورقة رئيس الفقراء لعشر سنوات وهو يكبلهم في الدرك الأسفل من العذاب الجماعي الذي تقدر عليه الدولة ويكويهم كل يوم وبضراوة بجحيم الضرائب على المواد الأساسية ويرفض نقص سعر المحروقات التي تمثل حزءا كبيرا من لب الغلاء في البلد ، والتي كشفت مصادر إعلامية أنه يتاجر بها لمصلحته الشخصية. فكيف لا يستغل العدالة ليقال ” الرئيس ناصر الاسلام ” أو أي إطراء آخر لمدة سنتين. . وهذا هو معنى ان الجماهير أمام مظهر يخدع بحقيقة كاذبة أن ملف ولد إمخيطير بين يدي القضاء لكنه في الحقيفي في يد “السلطة التنفيذية” وهناك جماهير عريضة تراقب هذا الملف بتشنج وتوتر كبيرين . ويطفوا جزء يسير منها على السطح يتظاهرون كل يوم في البلد وينتظرون حكم الإعدام في حق المسيء كما تخبر بذلك الشريعة الإسلامية جازمة دون محباة ولا مواربة ،ويزيدهم تصلبا في ذلك الهجمة الخارجية المنظمة بغرض إستفزاز مشاعر المسلمين والتشبث بمشاعر الأمم الأخرى والدفاع عنها حتى الحيوانات . أمعانا في إهانة المسلمين . ،لكن هناك خيار آخر لاستغلال القضية في الاتجاه المعاكس . وهوالضغوط الخارجية الكبيرة من وراء الحجب عبر الممولين والحركات الحقوقية وعبر القنوات الديبلوماسية على النظام ،ضغوط تفوق قوة الشارع بكثير ،ولها صلاحيات واسعة على بلد متأزم تبلغ ديونه زهاء الخمس مليارات دولار ،ويبحث رئيسه بسبب سوء العلاقات مع جميع الأطراف الداخلية والجوار عن مخرج يحفظ له محظياته الشخصية وقدأخذ موعد رحيله يزف . ولا ترضى هي الأخرى بأقل من الحكم بالإفراج عن ولد إمخيطير إيذانا بالحصول على تأشيرة دخول لتلك الهجمة المنظمة على المسلمين في عقر دارهم بسلام وبالتالي الهدف عميق ودؤوب والثمن من عندنا . غني عن البيان بل يكاد يكون بديهيا والحال على ما تقدم ، أن الخيارات تعرف تناقضا حادا لكنها تتوافق في نفس الوقت مع مبدأ راسخ لدى نظامنا وهو البحث باستمرار عن الربح على نحو مكيافللي وهكذا تجري متابعته الأحداث بثبات ملحوظ على هذا المبدأ أن العدالة والحقوق تتعين بالتوافق مع خدمة مصلحة النظام ولنكن أكثر تحديدا مصلحة عزيز ،وليست أبدا على صلة برؤية تعزيز العدالة بالبلد . وهكذا لا ينبغي على المتظاهرين إضاعة الوقت في التنظير، فقط يجب عليهم الإنتظار حتى يقرر عزيز كيف سيربح.
محمد محمود ولد بكار